الرجل الفسيفساء
11-04-2005, 05:22 PM
وُلِدَ بوذا عام 563 قبل الميلاد ، وكان أبوه ملكاً على مدينة "كابيلا فاستو" عند سفوح جبال الهملايا ، وكانت أمه تسمى مايا ، وقد نشأ بوذا في الشرف والعز ، وعاش عيش الأمير الهانئ في ثلاثة قصور "وكأنه إله" . وكان أبوه يقيه شرّ الاتصال بما تعانيه الحياة البشرية من آلام وأحزان ، وكان يقوم على تسليته أربع آلاف راقصة . ولما بلغ الرشد ، عرضت عليه خمسمائة سيدة ليختار إحداهن زوجة له ، ولما كان ينتمي إلى طبقة "الكشاترية" أي المقاتلين ، أُحسن تدريبه في الفنون العسكرية ، ولكنه إلى جانب ذلك جلس عند أقدام الحكماء حتى أتقن دراسة النظريات الفلسفية كلها التي كانت شائعة في عصره ، وتزوج وأصبح والداً سعيداً بحياته ، وعاش في ثراء ودعة وطيب أحدوثة ، وقد خرج من قصره ذات يوم على الطرقات حيث عامة الناس ، وهنالك رأى شيخاً كهلاً ، وخرج يوماً ثانياً فرأى رجلاً مريضاً ، وخرج يوماً ثالثاً فرأى ميتاً . وبعد ذلك صمم بوذا ، فجأة ، أن يترك أباه وزوجته وابنه الرضيع ليضرب في الصحراء زاهداً . ولما أسدل الليل ستاره تسلل إلى غرفة زوجته ، ونظر إلى ابنه "راهولا" نظرة أخيرة ، ومن ثم غادر المدينة على ظهر جواده . وذهب إلى مكان اسمه "يورفيلا" وفي ذلك المكان أخضع نفسه لأشقّ أنواع التقشّف ، ولبث ستة أعوام يحاول أساليب اليوغا ـ رياضة النفس ـ وعاش على الحبوب والكلأ ، ومضى عليه عهد اقتات فيه بالروث ، وانتهى به التدرج إلى أن جعل طعامه حبة من القنب كل يوم ، ولبس ثياباً من الوبر وانتزع شعر رأسه ولحيته لينزل بنفسه العذاب . ولكن فكرةً أشرقت لبوذا ذات يوم وهي أن تعذيب النفس ليس هو السبيل لما يريد . وذهب ليجلس تحت شجرة وارفة الظل مصمماً ألا يبرح ذلك المكان حتى يأتيه التنوير ، وسأل نفسه ، ما مصدر ما يعانيه الإنسان من أحزان وآلام وأمراض وشيخوخة وموت ؟. وهنا أشرقت عليه فجأة صورة للموت والولادة يتعاقبان في مجرى الحياة تعاقباً لا ينتهي ، ورأى أن كل موت يزول أثره بولادة جديدة ، وكل سكينة وغبطة تقابلها شهوة جديدة وقلق جديد وخيبة أمل جديدة وحزن جديد وألم جديد . وهكذا ركّز عقله في حياة من نقاء وصفاء ، ركّزه في فناء الكائنات وعودتها إلى الحياة في ولادة جديدة . وبنظرة قدسية مطهّرة ، رأى الكائنات الحية تمضي ثم تعود فتُولَد دنيّة أو سنيّة ، خيّرة أو شريرة ، سعيدة أو شقية ، حسب ما يكون لها من ـ كارما ـ وفق ذلك القانون الشامل الذي بمقتضاه سيتلقى كل فعل خيّر ثوابه ، وكل فعل شرير عقابه ، في هذه الحياة ، أو في حياة تالية تتقمّص فيها الروح جسداً آخر . والواقع أن رؤية بوذا لهذا التعاقب بين الموت والحياة ، هو الذي جعله يزدري الحياة البشرية ازدراء ، وقال لنفسه ، إن الولادة أمُّ الشرور جميعاً ، ومع ذلك فالولادة ماضية في طريقها لا تقف فيه عند حدّ ، إنها ماضية إلى الأبد في طريقها تعيد إلى مجرى الأحزان البشرية فيضه إن فرغ مما يملؤه . وهنا تساءل قائلاً ، لو استطعنا إيقاف هذه الولادة ، لماذا لا نوقفها ؟. وأدرك الجواب في أن قانون ـ الكارما ـ يتطلب حالات جديدة من التقمّص للروح لكي يتاح لها أن تكفّر عما اقترفت من شرور في حيواتها الماضيات . وإذن ، فإن استطاع إنسان أن يعيش حياة يسودها عدل كامل ، لو استطاع أن يحوم بفكره حول ما هو أبدي خالد ، ولا يربط هواه بما يبدأ وينتهي ، عندئذ يجوز أن يجنّب نفسه العودة إلى الحياة . وسينتهي معين الشرّ بالنسبة إليه لو استطاع الإنسان أن يخمد شهوات نفسه ، ساعياً وراء فعل الخير دون سواه ، عندئذ يجوز أن يمحو هذه الفردية التي هي أولى أوهام الإنسانية وأكثرها أثراً ، وتتحد النفس آخر الأمر باللانهاية اللاواعية . إن السعادة مستحيلة ، فلا هي ممكنة في هذه الدنيا ـ كما يظن الدهريون ـ ولا هي ممكنة في الحياة الآخرة ، كما يقول أيضاً أنصار كثير من الديانات . أما ما يمكن أن تظفر به فهو السكينة ، هو الهمود البارد الذي نصيبه إذا ما نفضنا عنّا كل شهواتنا ، هو النرفانا