المشكلة القبطية وآفاق الحل:
أمام هذا الوضع السياسي والاجتماعي الصعب الذي يعيشه أقباط مصر والذي تتحمل فيه (الدولة المصرية) القسط الأكبر من المسئولية، يتحمل الأقباط أيضاً قسطاَ من المسؤولية عن وضعهم المتردي هذا، تتحدد هذه المسئولية في عزوف الغالبية العظمى من الأقباط عن (العمل السياسي) المعارض والنشاط في المنظمات والهيئات الخاصة بحقوق الإنسان. لا شك أن هذا العزوف يعود بشكل أساسي إلى (عقدة الخوف) من السياسية في دولة لا تتوفر فيها الحريات السياسية والديمقراطية، لكن علينا أن لا ننتظر من أي نظام سياسي أن يقدم الحرية والديمقراطية ويمنح الحقوق على طبق من ذهب، أن الحرية والحقوق دوماً تنتزع و لا تعطى. حدث أن عقد أقباط مصر أول مؤتمر خاص بهم، وربما كان الأخير، باسيوط عام 1911 وقد حضرته شخصيات مدنية ودينية و فيه صاغوا لأول مرة جملة من المطالب السياسية منها: زيادة التمثيل القبطي في المجالس المنتخبة والمساواة في إسناد الوظائف الإدارية وتخصيص الموارد المالية، الخ. وقد قبل هذا البيان السياسي برفض تام وبحركة مضادة من مؤتمر إسلامي عقد بالإسكندرية.
ونظراً لطبيعة المجتمع القبطي المتعلق جداً بالكنيسة، والمبالغة الزائدة في الحرص على (الوحدة الوطنية) من قبل الأقباط، وخاصة من قبل، رجال الكنيسة القبطية، في مقدمتهم قداسة البابا(شنودة) ورفضهم النظر إلى الأقباط والتعامل معهم كأقلية أثنية ودينية متميزة في مصر، خشية من أن يتهم الأقباط بـ(اللاوطنية)، إلى درجة بات يشعر المراقب بأن (الوحدة الوطنية) هي مسئولية الأقباط وحدهم دون غيرهم، هذه المبالغة والإفراط في (جلد الذات) كانت سبباً أساسياً في ترك فراغ سياسي في الساحة القبطية وإبعاد، ولا أدري ربما محاربة، فكرة إنشاء (أحزاب سياسية) و(حركات قومية) خاصة بالأقباط تتولى مسؤولية المطالبة بالحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية للأقباط والدفاع عن حرياتهم المدنية والدينية في مصر، كما هو حال جميع الأقليات في المنطقة.إذ تعتبر إحدى أهم نقاط الضعف الأساسية عند أقباط مصر، هي عدم تشكلهم لوحدة سياسية قوية ومتماسكة خاصة بهم،بالرغم من وزنهم البشري وثقلهم الاقتصادي الجيد. فبغياب التنظيمات والقوى السياسية الخاصة بالأقباط يسهل بشكل كبير عملية تهميشهم وجعلهم خارج المعادلات السياسية الداخلية. وبغياب (الزعامة السياسية) المدنية وارتباط الأقباط الشديد بالكنيسة وتبعيتهم لها يحاول البابا (شنودة) تأكيد دوره كزعيم سياسي إلى جانب زعامته الدينية لأقباط مصر في تصديه للضغوطات المستمرة على الأقباط، مع تقديرنا لجهود قداسة البابا(شنودة) والكنيسة القبطية في هذا الاتجاه، لكن لا يمكن للكنيسة أن تقوم بمهام / أو تؤدي دور الأحزاب السياسية في الدفاع عن حقوق الأقباط وقضاياهم السياسية.
ما تم الإعلان عنه مؤخراً بتشكيل (حزب مصري) جديد على أساس القومية أو(الهوية المصرية) بكل تكويناتها وأطيافها الثقافية والاجتماعية واللغوية، بعيداً عن هيمنة العروبة والإسلام وعن كل فكر ديني، لا بد من أنه سيشكل هذا الحزب الخطوة الأولى والضرورية باتجاه حل إشكالية العلاقة بين الأغلبية العربية المسلمة والأقباط المسيحيين وبقية الأقليات المصرية، والتحرر من المفهوم العربي الإسلامي التقليدي القديم للوطنية هذا المفهوم القائم على الوحدانية في كل شيء،الوحدانية التي تنفي التعددية والتنوع في المجتمع، وقد حاولت الأصولية الإسلامية والقوميين العرب فرض مثل هذه الوحدانية على مصر والمنطقة منذ بداية الغزو العربي الإسلامي. لا شك أن بروز هكذا حزب يعتبر تطور نوعي كبير ومتقدم في الفكر السياسي المصري، وولاته تعكس رغبة الكثير من المثقفين والكتاب والسياسيين المصريين الذين يناضلون من أجل إبراز الهوية والثقافة المصرية المتميزة، ومن أجل أن تكون مصر لكل المصريين.
أخيراً:
أرجو أن لا يساء فهمنا من خلال طرحنا لـ(مشكلة الأقباط) في مصر، ما أريده فقط التحذير من مخاطر وتداعيات هذه المشكلة، ومن أجل الإحاطة بها وبكل أبعادها الاجتماعية والسياسية، لأن زيادة الضغط عن قدرة التحمل لا بد من أنه سيولد الانفجار، وهذه قاعدة علمية. حقيقة وإن تبدو اليوم الأوضاع هادئة في مصر هذا لا يعني أبداً أن المشكلة قد حلت، لأنها قابلة لأن تنفجر في أية لحظة بسبب النشاط الكثيف والمحموم للحركات الإسلامية المتطرفة والقوى الأصولية التي تسعى لتحويل مصر إلى دولة إسلامية(تيوقراطية)، وفي ظل تهاون الدولة وتغاضيها عن أعمال العنف و الإرهاب التي يتعرض لها الأقباط على أيدي الإسلاميين المتشددين.
وبغياب الحلول الصحيحة لـ (المشكلة الأقليات) كظاهرة إيديولوجية / سياسية /اجتماعية تعاني منها جميع الدول العربية وليست مصر وحدها، وإن بنسب متفاوتة، تحولت هذه الظاهرة إلى فيروس (سوسيولوجي) خطير تسبب في تلوث شامل للحياة السياسية، وبدأ هذا الفيروس ينخر في الجسد الوطني لهذه الدول ويهدد وحدتها الوطنية. لقد أثبتت التجارب فشل خيار (الاندماج القسري) للأقليات في أي مجتمع، وليأخذ الجميع من (الحالة العراقية) الراهنة درساً في علم الاجتماع السياسي ويتعلم منه. أن الحل الصحيح ليس عبر قمع الأقليات والتنكر لوجودها وإرغامها على القبول بما تقدمه لها الأغلبية، وإنما الحل يكمن بتطمينها على مستقبلها وبالحفاظ على خصوصياتها وتحصينها وطنياً من خلال الاعتراف بها وبحقوقها دستورياً في دولة علمانية تحترم حقوق الإنسان، وتقوم على مبدأ العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمييز، وفي ظل نظام سياسي يقوم على الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.
الكاتب من سوريا / مهتم بمسألة الأقليات
shosin@scs-net.org
خاص بأصداء