و كما انشقت الكنيسة بدخولهاالسياسة ، كذا بدأت الامبراطورية الرومانية في الضعف ، فبعد أن كانت وظيفة الامبراطور الاهتمام بالدولة ، بدأ يتدخل في عقد المجامع الكنسية ، و تشاغل بوحدة الكنيسة ، وتأزمت الأوضاع بعد محاولة فرض ايمان الكنائس الغربية (4) على الايمان القبطي ، و أثبت التداخل بين الدين و الدولة من جديد أنه صفقة خاسرة للطرفين.
و في بدايات القرن السابع الميلادي ، وفي ظل الصراع الطائفي الداخلي في الامبراطوربية الرومانية بشقيها الغربي و الشرقي ، و كذا الحرب بين الرومان و الامبرطورية الفارسية و التي استمرت من 602-628 م ، نتج عنها خواء روحي و خلل سياسي في المنطقة مما سهل على برابرة المسلمين من الاعراب أن ينطلقوا في غزوات مثيلة بالتتار بدأت عام 632 م ، لينهوا على امبراطورية فارس و يستولوا على كل دول شمال أفريقيا الرومانية .
****
الكنيسة القبطية والظلام الروحي الاسلامي:
بدخول الاسلام إلى مصر و توطده فيها عام 642م ، دخلت الكنيسة عصر من الظلام الروحي و ظهرت اعراضه:
* بدأ بأن ازداد العبء على البطريرك القبطي ، فصار ملزما بتمثيل الاقباط سياسيا (راجع المقال الأول) ، و عندما بكى قداسة البابا شنودة الثالث و بكينا معه بعد أحداث الاسكندرية الأخيرة ، أدركت مدى العبء الثقيل الذي يحمله ، فهو يحمل هموم الاٌقباط السياسة قبل الروحية.
* و بعدها تم القضاء على اللغة القبطية ، و معها أنقطعت الصلة بين القبطي و تراثه من كتابات الآباء ، وفي محاولات معدودة لترجمة التراث القبطي إلى العربية ، بدأ ظهور بعض الموسوعيين من الأقباط (5) ، والذين تولوا ترجمة القوانين الكنسية و تجميعها ، و معها أضافوا الكثير من القوانين الكاثوليكية (الملكانية) إلى التراث القبطي (6) ، و التي تحمل في روحها أفكارا حولت قيادة الكنيسة من خدمة إلى سلطان متجاهلة قول المسيح "اذا اراد احد ان يكون اولا فيكون آخر الكل وخادما للكل" (مرقس 9 :35).
* وبدأت الثقافة الاسلامية أيضا تنتشر بين الاقباط: فبدأ الاقباط يهتمون بالمظهر لا الجوهر ، فتضخمت الصلوات الكنسية دون ابداع طقسي أو لاهوتي (7).
* و أصبح "الكم" أهم من "الكيف" ، فازدادت عدد الاصوام الكنسية لتصل إلى ما يقرب من 260 يوما في العام (8) ، و معها ازدادت اصناف الطعام الصيامي ، في محاولة شعبية للتحايل على كثرة عدد أيام الصوم ، و بعد أن كان الصوم بهدف نوال قوة روحية للتبشير و النمو الروحي صار مجرد فرض ديني ، يكتفي معظم الأقباط بصومه دون انقطاع عن الطعام ، و دون هدف روحي معين.
* و من الثقافة الاسلامية دخل أيضا مفهوم التعالي الإلهي "الله تعالى" و بدأت صورة الإله الاسلامي تغزو العقول القبطية في العصر القبطي المتأخر ليبتعد المسيح إلى السماء السابعة ، على الرغم أن إله المسيحية ليس متعالي بل "وديع و متواضع القلب" (متى 11: 29) .
* ومع تعالي الإله احتاج الأقباط لبديل أكثر قربا من القلوب ، فتشوهت علاقة الاقباط بقديسي الكنيسة:
- و بدلا من أن نتمثل بإيمانهم و نعلن ايماننا ، صارت قصص استشهادهم تُذكر لمزيد من التعجيز و ترسيخ الشعور بالدونية لدى القبطي المعاصر مقارنة بقديسي العصور الأولى.
- وبدلا من علاقة حية مبتادلة مع القديسين (هم يصلون لنا و نحن نطلب عن نياحهم كما في القداس الالهي) ، يلتجئ القبطي إلى القديسين لحل مشاكله اليومية و التوسط له عند الإله المتعالي (علاقة احتياج إلى معجزة) ،
- و انتشرت فكرة تصور أن الله كالملك لا يمكن الوصول إليه إلا بوساطة الوزراء من القديسين ، مع أن الملك قد تجسد و صار بيننا ، و أن وساطة العهد القديم بين الله و الناس قد تلاشت عندما انشق حجاب الهيكل في قدس الاقداس (مرقس 15: 38) ، و بعدها صار الطريق إلى قدس الاقداس مفتوحا .
- و بعد أن نزل الرب ليتعامل معنا مباشرة ، نأبى إلا أن يكون التعامل على الطريقة الاسلامية من وراء حجاب و وساطة (كما كان الوحي الاسلامي بوساطة محمد و جبريل) .
- و بدلا من أن يقف القديس وراءنا ليدفعنا نحو المسيح ، صار يقف بيننا و بينه ليحجب المسيح عنا ، وننكرالحقيقة التي نكررها في القداس الإلهي أن إلهنا لم يأتمن ملاك ولا رئيس ملائكة و لا نبيا على خلاصنا و أنه نقض"الحاجز المتوسط " بين السماء و الأرض لكي يرفعنا إليه . كلام نردده يوميا دون أن نعنيه.
* وصار الخوف هو الحاكم ، و صارت كلمة الانجيل تقال همسا ، و تحول الاقباط إلى مسيحيين بالوراثة. و أصبح من الحكمة أن تكتم إيمانك ، ولا تعلن مسيحيك ، و على الرغم من أن القبطي يصلي في القداس الإلهي "بموتك يا رب نبشر و بقيامتك المقدسة نعترف" ، إلا أننا لم نعد نبشر به و لا نعترف بقيامته ، وصار مجرد كلاما محفوظا لا يمس أرض الواقع الملئ بالخوف.
__________________
لم اكتم عدلك في وسط قلبي تكلمت بامانتك وخلاصك لم اخف رحمتك وحقك عن الجماعة العظيمة اما انت يا رب فلا تمنع رأفتك عني تنصرني رحمتك وحقك دائما
|