
22-03-2006
|
 |
Moderator
|
|
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
المشاركات: 6,270
|
|
ان العيش بين القبائل البدوية ومتابعة اوضاعها جعلت (نبونيد) يدرك حقيقة استراتيجية لم يكن يحسب لها حساب. ان دراسة اوضاع العالم في تلك الحقبة دلت على ان قبائل الرعاة الآرية التي إنبثقت من اواسط آسيا قد استثمرت اهم الميزات التي تمتلكها: (الحصان).. شرعت بهذه الماكنة الجبارة الجديدة تجتاح آسيا واوربا وتكسر الدول وتنشر الخراب. لا يمكن ان يقف بوجه هؤلاء الرعاة البدو الا بدو مثلهم لم تدجنهم الحضارة ولم تفسدهم الرفاهية. إذن ليس هنالك من منقذ لهذا المشرق من اجتياحات القوى الرعوية الآسيوية والأوربية الجامحة الا قبائل البادية التي شرعت هي الأخرى قبل قرون تستثمر افضل اكتشافاتها: (الجمل)، كماكنة جبارة لها دورا حاسما في التنقل في البوادي والسهول والإجتياح والغزو..
ادرك (نبونيد) ان هذه القبائل هي التي تمتلك المستقبل لأنها الوحيدة القادرة على مجابهة اجتياحات الفرسان الآسيويين والأوربيين. لهذا يتوجب تطويع هذه القبائل وتهيأتها للعب دورها الحربي التاريخي المطلوب كمخلصة للمشرق من هزيمته المحتمة.
منذ ذلك الحين شرع (نبونيد) بالتركيز على نشر اتباعه وانصاره في جميع بوادي وصحارى المنطقة ابتداءا من بادية الشام حتى اليمن والجزيرة العربية وسيناء، بل هنالك اتباع امتد بهم الترحال والتبشير الى قبائل صحارى شمال افريقيا حتى سواحل الأطلسي.
لكن الوقت لم يمهل هذا الملك، لأن الفساد كان من القوة بحيث لم يترك أي فرصة للنهوض والصلاح. اجتاح الأخمينيون بابل بعد خيانة رجال الكهنوت والدولة وتعاونهم مع الغازي الذي اوعدهم بالإبقاء على مصالحهم وسلطانهم.
* * * خلال قرون تعمق المعتقد العرفاني وانتشر في جميع انحاء الأرض بين مختلف الأقوام، في آسيا وافريقيا واوربا. وقد شاعت عنه ايضا التسمية الإغريقية(الغنوصية ـ GNOSTICISM) التي تعني(العرفانية). لكن شعوب المشرق ومصر وشمال افريقيا، ظلت اشد تمسكا بهذا المعتقد، لأنه يمثل ديمومة لميراثها الديني الأصلي. شرع المبشرون الشاميون ينشرون العرفانية في بلاد الإغريق والرومان وفي كل ضفاف البحر المتوسط. اما المبشرون العراقيون فأنهم كعادتهم اتجهوا نحو آسيا حيث نشروا العرفانية بين الإيرانيون والترك والهنود حتى حدود الصين. في كل مكان تشكلت الطوائف العرفانية التي تنوعت طوائفها وتسمياتها مثل العيسانية والصابئية والهرمزية والمانوية وغيرها.
لقد اتخذت هذه العرفانية بعدا فلسفيا عميقا في مصر، حيث اصبحت الأسكندرية مركز هذه الدعوة بعد ان دخلت فيها بعض المؤثرات الآسيوية الهندية والايرانية وكذلك الإغريقية، وما(الأفلاطونية الجديدة) المصرية الا التعبير الفلسفي عن هذه المعتقد.
بلغت هذه العرفانية ذروة سلطانها وإنتشارها مع إنبثاق المسيحية الشامية التي تمكنت من التعبير عن التطلعات العرفانية الأصيلة لسكان الضفاف الشرقية للمتوسط والتعويض عن خضوعهم السياسي للدول الأجنبية. كذلك قام (ماني البابلي) بنشر دعوته العرفانية في انحاء العالم، وقد دفع حياته ثمنا لذلك، إذ تم صلبه وحرقه من قبل الملك الفارسي بهرام.

* * * اما بالنسبة للملك ـ النبي (نبونيد) فلا احد يعرف مصيره بعد سقوط بابل. هنالك من يعتقد بأنه قد قتل بعد اسره، ولكن الحقيقة انه هرب واعتزل في البادية مع الكثير من مريديه واتباعه وظل ينشر دعوته من هناك.
مع الزمن امتزج هؤلاء العرفانيون البابليون مع قبائل البادية وتزاوجوا وانحدروا الى الجنوب في اعماق الحجاز على سواحل البحر الأحمر. هذه السلالة العرفانية البابلية هي التي اسست مدن يثرب ومكة.
لقد ظل دائما هذا الملك النبي مقدساً لدى الرهبان والنساك والمتصوفة العرفانيين. والكثير منهم يعتقدون بأنه هو المهدي المنتظر صاحب الزمان الذي سيظهر ذات يوم لينقذ الناس من الظلم والفساد. يُعتقد ان قصة (نبونيد) وهجرته الصحراء العربية، هي التي اوحت للعرب بحكاية (اسماعيل) وامه الذين قطنوا الصحراء ومنهم انحدر اجداد العرب الشماليين (المستعربة)!
من هذه السلالة البابلية انحدرت قبيلة قريش التي حافظت على ميراث الأسلاف ومعتقدهم وراحت تلعب دورا قياديا توحيديا بين قبائل الجزيرة العربية. حتى انبثق الاسلام ليحقق احفاد بابل نبوءات سلفهم الجليل (نبونيد) ويقودوا قبائل البادية صعودا نحو الشمال ليعيدو امجاد بابل في دمشق ثم في بغداد.
* * * العرفانية ليست ديناً بل هي طريقة تفكير قابلة للإنسجام مع أي دين او معتقد يتقبل فكرة الخير والمحبة. العرفانية هي التي شكلت الأساس المعتقدي الذي انبثقت من جميع الأديان والمذاهب السماوية (التوحيدية). ترى العرفانية شديدة الحضور والوضوح في الرهبنة المسيحية والقبالا اليهودية ومذاهب التشيع والمتصوفة والإشراقيين المسلمين.
من أوليات هذا المعتقد انه ليس مهما الأسماء التي تقدسها، الآلهة والانبياء والقديسين، بل المهم هو جوهر الفكرة، اما الاسماء والتفاصيل والحكايات فهي اغطية ورموز ووسائل توضيح تتناسب مع ظروف وزمان كل انسان ومجتمع.
ان الإيمان بـ (وحدة الوجود) هو جوهر هذا المعتقد. ان الخالق غير منفصل عن المخلوق. انه خالق ومخلوق من خليقته.. ومن يبتغي التعبد للإله عليه ان يتعبد لذاته ولقوى الحياة في داخله، لأن الله هو الضمير وهو إرادة الخير والنور الكامنة في أعماق كل إنسان..
ان الخالق يكمن في كل المخلوقات، ومن يريد ان يتعبد للإله عليه ان يتعبد لكل الوجود، لأن الله هو النور والخير والإبداع والجمال الكامن في اعماق كل شيء.
__________________
لم اكتم عدلك في وسط قلبي تكلمت بامانتك وخلاصك لم اخف رحمتك وحقك عن الجماعة العظيمة اما انت يا رب فلا تمنع رأفتك عني تنصرني رحمتك وحقك دائما
|