في الدين الحقد يخفي وجه الله، وفي السياسة يدمر الحقد حرية الإنسان. وفي مجال العلوم الحقد يضع نفسه في خدمة الموت. أما في الأدب فالحقد يشوه الحقيقة ويغير من معنى التاريخ، ويغطي حتى الجمال بطبقة كثيفة من الدم والبشاعة. الحقد يتسلل في الكلام كما في النظرات ليحدث اضطرابا في علاقات إنسان مع الآخر، جماعة بشرية مع الأخرى وشعب مع الآخر. التعصب موجود، ويقف في بداية الحقد. إذا لم نوقفه باكرا فات الأوان، لأنّه عندما يبدأ الحقد مسيرته، لا يوجد شيء يمكن أن يوقفه. وعكس الحقد هو أيضا حقد آخر، ولا وسيلة للانتصار عليه غير منعه من أن ينشأ.
لكن هناك حدودا للتسامح، وهناك مرحلة نصل فيها إلى اللا محتمل، ويصبح التسامح مذنبا، ويصبح من الواجب اتخاذ موقف، وإلا حكمنا الشلل، وبقي الباب مفتوحا أمام كل التجاوزات وإلى استقالة الفكر النقدي، وصولا إلى لاعقلانية فكرة تسامح غير محدود.
هناك دافعين للتسامح: الدافع الأول هو الشك أو عدم القدرة على اتخاذ قرار أكيد بالنسبة لصواب موضوع أو بطلانه، وبالتالي نتسامح بشأنه. ونادرا ما يكون الدافع يقينا أكيدا، أو قناعة موجودة، من نوع" إني اعرف أن هذا سيء لكن التسامح يجبرني على قبول ما أجده سيئاً".. لكن أين هي الحدود؟ وهل هناك تعصب مبرر؟ وما هي الاعتبارات النفسية، السياسية أو الأخلاقية التي تشرّع لرفضنا التسامح ببعض الأمور؟ للإجابة هناك عدة معطيات:
المعطى الأول نفسي يجعل من قبول تسامح غير محدود أمرا صعب القبول، لأن هناك علاقة بين التقييم الأخلاقي والقرار بالفعل، وبالتالي لا يمكن أن نجبر أنفسنا على الامتناع عن المبادرة بشيء نحن على قناعة به. قد يكون من المبرر أخلاقيا أن نقبل بشيء ونتسامح تجاهه مع أننا لا نوافق عليه، لأن هناك قيمة أخلاقية وداخلية بعدم التدخل في أفعال وآراء الآخرين. ولكن عندما يتم تجاوز حد معين فلا يعود من الخير بشيء قبول الشر، والتسامح تجاهه يوازي فداحة ارتكابه.
يتأسس التعصب على الثقة من تملك الحقيقة المطلقة وعلى واجب فرضها على الجميع بالقوة، أكان ذلك بأمر إلهي أو بإرادة شعبية. وبالتالي يصبح هذا التعصب مؤسساتيا. وتاريخيا يعود ذلك إلى زمن الهرطقة وإلى المؤسسة الدينية، مسيحية كانت أم إسلامية أم يهودية. وفيها نجد النواة الأولى لكل سياسات التعصب اللاحقة. وهي قادت إلى مفهوم العنف العادل، الذي تمارسه المؤسسة بإرادة شرعية ضد كل شكل من أشكال المعارضة. أما العنف غير العادل فهو في هذه الحالة الذي يستعمله الهراطقة ضد المؤسسة وضد المؤمنين. وهو عنف يجب معاقبته بالإعدام والتعذيب الشنيع. وفي الواقع فإن المعركة من أجل التسامح تم خوضها بدايةً في المجال الديني وذلك منذ القرن السادس عشر.
الإنسان هو غريزيا متعصب، وابن خلدون وصفه بأنه حيوان عدواني. ولم يصبح التسامح حقا، غير واضح الحدود والمعالم، وغير معترف به من قبل الجميع، إلا منذ زمن قريب. وتأكّد بالإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان في منتصف القرن الماضي. لقد أدت أهوال الحرب العالمية الثانية إلى ظهور مفهوم التسامح كمبدأ أساسي للتعايش السلمي ضمن التنوع والتعددية.وبعد أن ظهر التسامح كمبدأ عالمي مرتبط بحقوق الإنسان، بقي تلقين الناس مبادئ التسامح وتعلم مفرداته. إن عكس التعصب هو احترام الآخر. أمّا القبول السلبي لكل اختلاف فهو يقود إلى اللا مبالاة ويشجع على التعصب، أي أننا يجب أن نمارس القبول الايجابي ونتفاعل مع الآخر المختلف لا أن ننكر وجوده.
تفترض مقاومة التعصب إيجاد تعريف لما هو من غير المقبول التسامح فيه. ضمن الفكر الليبرالي، تُقدم ثلاث حجج لتبرير وضع حد للتسامح:
الحجة الأولى وهي الأكثر ذكرا تقول انه لا يمكن أن نتسامح مع ما يهدد التسامح ذاته. فالتسامح فضيلة عكوسة. ولأنها هي ثروة يصبح من الضروري لحمايتها، أن نواجه هجمات الذين يريدون تدميرها. وبالتالي فالأفعال والتصريحات أو التصرفات التي يمكن على المدى القصير أو البعيد أن تشكل خطرا على وجود التسامح، غير مقبولة ولا تحتمل التسامح.
أما الحجة الثانية فلها علاقة بموضوع المساس بالحريات ومصالح الأشخاص الآخرين. وعرّف هذا المعيار بشكل جيد جون ستيوارت ميل في مؤلفه "عن الحرية". ويعتبر أنه هناك ثلاث أنواع ن الحريات الأساسية: حرية الفكر، التي يجب أن تكون مطلقة لكل الأفراد، حرية التعبير عن الفكر ونشر الآراء، وحرية العيش بالطريقة التي يرتأيها كل فرد. لكن ممارسة كل نوع من هذه الحريات مشروط بكونه لا يؤذي الآخرين، ويجب عدم التسامح بكل ما يمس هذه الحريات والمصالح. يطرح هذا الشرط إشكالية في حال حرية التعبير. وكمثال على ذلك نأخذ التشهير: في المبدأ يجب أن نرفض ذلك، أما بالواقع فلا يمكن تطبيق ذلك وإلا اضطررنا إلى منع عدد كبير من المنشورات. أي أنه صحيح أن مبدأ عدم إيذاء الآخر قائم وسليم لكن نجد أنفسنا مضطرين في هذه الحالة إلى القبول بأذى قليل خوفا من الوقوع بأذى اكبر وهو تقييد الحريات الشخصية. وهناك عامل آخر يجب أخذه بعين الاعتبار وهو أننا يمكن أن نشعر بالأذى الشديد من قول أو فعل معينين قد لا يكونا بهذه الأهمية بالنسبة للذي ارتكبها ولا يعنيان له الشيء ذاته.
الحجة الثالثة بالنسبة لتحديد مفهوم التسامح هي ضرورة الحفاظ على بعض الشروط الأساسية للوجود الاجتماعي المشترك. أي أنه هناك مجموعة من الحقائق الأخلاقية الأساسية تشكل الاتفاق الأخلاقي للمجتمعات الديمقراطية: مثل رفض الإبادة الجماعية، الرق، الاغتصاب، التفرقة العنصرية، العنف ضد الأطفال. وممارسة التسامح يجب أن تتوقف عند هذه الأمراض ولا يمكن أن نقبل أو أن نتسامح مع أي شيء يمت إلى مثل هذه الأفعال بصلة.
قال Albert-Ena Caron :"يزدهر التعصب والحقد حيث الجهل والغباء والقومية الكاذبة".
__________________
طلبت الى الرب فاستجاب لي ومن كل مخاوفي أنقذنى" (مز 34 : 2-4)[SIGPIC][/SIGPIC]
مدونتي كلمة حب
|