تابع المقال 3
ثم ينتقل الخطاب الديني من الناس إلى الملائكة الذين لا عمل لهم غير التسبيح بعظمة الله ليلاً ونهاراً. فالقرآن يقول:
- يسبحون الليل والنهار لا يفترون (الأنبياء، 20)
- وترى الملائكة حافين حول العرش يسبحون بحمد ربهم (الزمر، 75)
- الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون له ويستغفرون للذين آمنوا (غافر، 7)
- فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون (فصلت، 38)
- تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض (الشورى، 5)
فكل شيء من شجر وحجر وحيوان وملائكة يسبحون لله أناء الليل وأثناء النهار. فهل هذه صورة الإله العادل الرحيم؟ يخلق الإنسان والجماد والحيوان لغرض واحد فقط: أن يسبحوا له ويعظموه. أليست هذه نرجسية لا تليق بإله عادل؟ وهل كل هذا التسبيح والتمجيد يزيد شيئاً في قدرة الإله؟
وقد اختصر النبي القرآن كله في التسبيح لله. فقد جاء رجل إلى النبي فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزيني منه. قال له النبي: قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. فقال له الرجل: يا رسول الله، هذا لله فما لي؟ قال: قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني (الجامع لأحكام القرآن، سورة الفاتحة). فحتى هذا الرجل البسيط الذي لم يستطع أن يحفظ القرآن، عرف أن كل التسبيح والتعظيم لله وليس للإنسان منه شيء.
ورغم أن الإله المفروض فيه أن يكون عارفاً بنوايا الناس، إلا أن الخطاب الديني يجعله عطشان إلى سماع التمجيد والتعظيم من عبيده، فقد قال فُضيل بن مرزوق، عَن عَطِيَّة العَوْفِى، عن أبى سعيدٍ الخُدْرِىِّ قال: قالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ إلى الصَّلاَةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِى أسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَاىَ هذَا إلَيْكَ، فَإنِّى لَمْ أَخْرُجْ بَطَرَاً وَلاَ أشَراً، وَلاَ ريَاءً، وَلاَ سُمْعَةً، وَإنَّمَا خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أنْ تُنْقِذَنِى مِنَ النَّارِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِى ذُنُوبِى، فَإنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ، إلاَّ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَقْضِى صَلاتَه)).(زاد المعاد لابن قيم الجوزية، ج2، ص 209). فالملائكة المساكين مع تسبيحهم لله ليلاً ونهاراً عليهم أن يستغفروا لمثل هذا الرجل الذي يُشبع رغبة الإله في التعظيم والتبجيل لدرجة أن الإله يُقبل عليه بوجهه ليسمع زيادة في المدح والتمجيد؟:
ومع كل هذا التقدير والتعظيم له، يظل إله السماء، المعجب بنفسه وبقدرته، يستدرج عباده لارتكاب المعاصي حتى يستطيع أن يملأ بهم جهنم التي وعدها أن يملأها من الجن والناس (ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) (هود، 118، 119). فهذا الإله الذي كان يمكن له أن يخلق الناس أمةً واحدة، خلقهم ليختلفوا حتى يستطيع أن يدخل بعضهم النار ويثبت لنفسه أنه قوي عزيز منتقم. وهذا الإله النرجسي لا يتحمل أن يكون شخصٌ أكثر مكراً منه، فهو خير الماكرين. يقول لنا الشيخ بن باز: (يحذر الله سبحانه عباده من الأمن من مكره فيقول سبحانه : "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ " المقصود من هذا تحذير العباد من الأمن من مكره بالإقامة على معاصيه والتهاون بحقه ، والمراد من مكر الله بهم كونه يملي لهم ويزيدهم من النعم والخيرات وهم مقيمون على معاصيه وخلاف أمره ، فهم جديرون بأن يؤخذوا على غفلتهم ويعاقبوا على غرتهم بسبب إقامتهم على معاصيه وأمنهم من عقابه وغضبه ، كما قال سبحانه : "سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ " وقال عز وجل : "وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ " وقال سبحانه : "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ" ) (فتاوى بن باز، ج2، ص 318).
فهل بعد هذه النرجسية من الخطاب الديني نستطيع أن نلوم رئيس تركمنستان على أمره بأن تُنقش عبارات من كتابه "روحنامة" مع آيات القرآن على جدران جميع المساجد؟ وهل نستطيع أن نلوم الشيخ حسن نصر الله على غضبه عندما سخر التلفزيون اللبناني من شخصه المعصوم؟ وهل نستطيع أن نلوم العقيد معمّر القذافي على إجبار الليبيين على قراءة كتابه الأخضر؟ فالنرجسية والتخبط جزءان لا يتجزأن من الخطاب الديني
آخر تعديل بواسطة servant4 ، 14-06-2006 الساعة 02:14 AM
|