عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 18-09-2006
الصورة الرمزية لـ makakola
makakola makakola غير متصل
Moderator
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
المشاركات: 6,270
makakola is on a distinguished road
إن الخلاصة الحاسمة في هذه المحاججة ضد الإكراه لتغيير الدين هي ما يلي: إن الفعل بصورة مجافية للعقل يناقض طبيعة الله. ويسجّل الناشر، تيودور خوري، الملاحظة التالية: بالنسبة للإمبراطور، الذي كان بيزنطياً تربّى ضمن الفلسفة اليونانية، فإن هذه الخلاصة بديهية. أما في التعليم الإسلامي، فإن الله فوق البشر (transcendent) بصورة مطلقة. وإرادة الله ليست مقيّدة بأيٍّ من مقولاتنا، بما فيها مقولة العقل. ويستشهد خوري بعمل العالم الفرنسي المتخصّص بالإسلام، ر. أرنالديز (R. Arnaldez) الذي يذكر أن إبن حزم وصل إلى درجة القول أن الله ليس مقيّداً حتى بكلماته ذاتها، وأن شيئاً لا يلزمه بأن يكشف الحقيقة لنا. ولو شاء الله، فسيكون علينا حتى أن نعبد الأصنام.

في ما يتعلق بفهم الله، وبالتالي في ما يتعلق بالممارسة العملية للدين، فإننا نجد أنفسنا اليوم إزاء وضع مثير للحيرة يشكّل تحدّياً مباشراً لنا. فهل يمثّل الإعتقاد بأن القيام بفعل غير معقول هو أمر مناقض لطبيعة الله مجرّدَ فكرة يونانية، أم أن هذا الإعتقاد صحيح دائماً وبحد ذاته؟ أعتقد أننا، هنا، نلمس الإنسجام العميق بين ما هو "يوناني" (= إغريقي) بأفضل معاني الكلمة، والفهم الإنجيلي للإيمان بالله. لقد عدّل القديس يوحنا البيت الأول من كتاب "سفر التكوين"، وبدأ تقديم إنجيله بالكلمات التالية: "في البدء كانت الكلمة"(logos) . وتلك هي نفس الكلمة التي استخدمها الإمبراطور: الله يعمل بموجب الـlogos. والحال، فإن logos تعني العقل وتعني الكلمة معاً: العقل القادر على التعبير عن نفسه، تحديداً بصفته عقلاً. وبناءً عليه، فقد قال القديس يوحنا الكلمة الأخيرة في المفهوم الإنجيلي لله، وفي كلمته هذه تجد الخيوط المتعرّجة والمجهدة للإيمان الإنجيلي ختامها وتوليفها. يقول يوحنا الإنجيلي: "في البدء كانت "الكلمة"، و"الكلمة" هي الله. إن اللقاء بين رسالة الإنجيل والفكر اليوناني لم يأتِ من الصدفة المحضة. إن رؤيا القديس بولس، الذي رأى طرقات آسيا مقفلة وشاهد في المنام رجلاً مقدونياً يتوسّل إليه: "تعال إلى مقدونيا وساعدنا" (أعمال الرسل16: 6-10)- إن هذه الرؤية يمكن تأويلها كـ"خلاصة" للضرورة، التي لا تحتاج إلى برهان، للتقارب بين الإيمان الإنجيلي والبحث الفلسفي اليوناني.

والواقع أن هذا التقارب كان جارياً منذ حقبات بعيدة. إن الطبيعة الغامضة "لله" التي ظهرت عبر العليقة المحترقة، هذا الإسم ("الله") الذي يميّز "الله" عن جميع الآلهة الأخرى بتسمياتها المتنوعة والذي يعلن ببساطة أنه هو هو، إن ذلك يمثّل بحد ذاته تحدّياً لفكرة الأسطورة، ويمكن مقارنته بصورة وثيقة مع مساعي سقراط للتغلّب على فكرة الإسطورة والتسامي عنها. وفي العهد القديم، وصل المسار الذي بدأ في العلّيقة المحترقة إلى مرحلة نضج جديدة في فصل "الهجرة"، حينما تم الإعلان عن أن إله إسرائيل- إسرائيل التي بات محرومة من أرضها ومن عبادتها- هو إله السماوات والأرض ووُصِفَ في صيغة بسيطة تحاكي كلمات العلّيقة المحترقة: "أنا هو". ويترافق هذا الفهم الجديد لله مع نوع من التنوير، يتعارض بصورة حادة مع خدع الآلهة الوثنية التي كانت مجرد تعبير عن أعمال البشر (cf. Ps 115). وهكذا، رغم النزاع المرير مع الحكام الإغريقيين الذين سعوا لتوفيقه بصورة قسرية مع عادات اليونان وعباداتهم الوثنية، فإن الإيمان الإنجيلي، في الفترة الإغريقية، تلاقى مع أفضل ما في الفكر الإغريقي على مستوى عميق، مما نجم عنه إثراء متبادل نجد أفضل تعبير عنه في أدب الحكمة اللاحق. ونحن ندرك الآن أن الترجمة اليونانية للعهد القديم التي تمّت في الإسكندرية- التي تسمى Septuagint- هي أكثر من مجرد ترجمة "بسيطة" ("بسيطة"، أي أقل من مرضية) للنص العبري: إنها، بالأحرى، شاهد نصّي مستقل وخطوة مميزة ومهمة في تاريخ الوحي، خطوة حقّقت هذا التلاقي على نحوٍ كان حاسماً في ولادة المسيحية، وفي انتشارها. إن ما حصل، هنا، هو لقاء عميق بين الإيمان والعقل، لقاء بين التنوير الحقيقي والدين. ومن قلب الإيمان المسيحي، وكذلك من قلب الفكر اليوناني بعد اعتناقه الإيمان، كان بوسع الإمبراطور مانويل الثاني أن يقول: إن عدم العمل بموجب "العقل" (logos) يتعارض مع طبيعة الله.

بكل صدق، ينبغي على المرء أننا نجد في اللاهوتالمسيحي في أواخر القرون الوسطى إتجاهات لإحداث تباعد في هذا التوليف بين الروح الإغريقية والروح المسيحية. وعلى نقيض ما يسمى النزعة المثقفة لأوغسطين وتوما، نشأت مع (الفيلسوف والفقيه) "دانز سكوتس" Duns Scotus نزعة إرادوية نجم عنها في النهاية الزعم بأننا لا يمكن أن نعرف سوى "إرادة الله العادية" (Voluntas ordinata) . وما يتجاوز ذلك يدخل في نطاق حرية الله، التي يمكن له بموجبها أن يفعل نقيض كل ما فعله حتى الآن. ونجمت عن ذلك مواقف تقترب بوضوح من مواقف إبن حزم ويمكن لها حتى أن تعطي إنطباعاً بأن الله متقلب المزاج، وغير مرتبط بالحقيقة والطيبة. وتم تعظيم تسامي الله وفرادته إلى حد أن تصوّرنا لما هو حق وخيّر لم يعد يشكل مرأة حقيقية لله، الذي تظل إمكانية الأكثر عمقاً بعيدة عن إكتناهنا إلى الأبد ومخبّاة خلف قراراته الحقيقية. ومقابل هذا التصوّر، كانت الكنيسة قد أصرّت دائماً على أن هنالك بين الله وبيننا، أي بين روحه الخالقة الأزلية وعقلنا المخلوق مقابلة حقيقية، يظل فيها عدم التشابه أكبر إلى درجة غير محدودة من التشابه، ولكن ليس إلى درجة إبطال المقابلة ولغتها (cf. Lateran IV). إن الله لا يصبح أكثر ألوهةً حينما ندفعه بعيداً عنا عبر إرادوية محضة لا يمكن لنا اكتناهها. بالأحرى، فالله السماوي حقّاً هو الله الذي ظهر لنا عبر "الكلمة"، وبصفته "كلمة" فقد تصرّف دائماً وما يزال يتصرّف بحب تجاهنت. حقّاً أن الحب يسمو على المعرفة، وهو قادر بالتالي على إدراك ما يتجاوز الفكر وحده (cf. Eph 3 :19)؛ ومع ذلك، فإنه يظل حب الله، الذي هو "كلمة". بناء عليه، فالعبادة المسيحية هي عبادة "روحانية" تنسجم مع الكلمة الأزلية ومع عقلنا (Rom 12 :1).

إن هذا التقارب الداخلي بين الإيمان الإنجيلي والتساؤل الفلسفي اليوناني كان حدثاً بالغ الأهمية ليس من زاوية تاريخ الأديان فحسب، بل ومن وجهة نظر تاريخ العالم- إنه حدث يظل يعنينا حتى اليوم. ونظراً لهذا التقارب، فليس مدهشاً أن المسيحية، رغم أصولها ورغم بعض التطورات ذات المغزى في الشرق، بلورت طابعها التاريخي الحاسم في أوروبا. ويمكن لنا أن نعبّر عما سبق بطريقة مقلوبة: إن هذا التقارب، مع إضافة التراث الروماني، خلق أوروبا وهويظل أساس ما يمكن أن نطلق عليه إسم أوروبا.

لقد تعرّضت مقولة أن التراث الإغريقي المطهّر نقدياً يمثّل جزءاً لا يتجزّأ من التراث المسيحي للمعارضة عبر الدعوة إلى نزع الطابع الإغريقي عن المسيحية- وقد سيطرت هذه الدعوة، بصورة متزايدة، على النقاشات الفقهية منذ بداية العصر الحديث. وإذا ما تمعّننا فيها عن كثب، يمكن ملاحظة ثلاثة أطوار في عملية إلغاء الطابع الإغريقي هذه: ومع أن هذه الأطوار مترابطة في ما بينها، فإنها متمايزة بوضوح من زاوية مبرّراتها وأهدافها.
__________________
لم اكتم عدلك في وسط قلبي تكلمت بامانتك وخلاصك لم اخف رحمتك وحقك عن الجماعة العظيمة اما انت يا رب فلا تمنع رأفتك عني تنصرني رحمتك وحقك دائما
الرد مع إقتباس