أما عن التديُّن والتديين، فحدث ولا حرج. وبينما المطلوب هو ثورة فكرية كاملة شاملة، ينصب الجهد علي تزويق الخطاب، وبهدف ذرائعي هو "تحسين الصورة". وبالمناسبة نذكر واقعة طريفة، وإن كانت ليست غير اعتيادية: نشرت جريدة "اللواء الإسلامي"، وهي الجريدة الدينية للحزب الوطني الإسلامي الحاكم، مقالا يوم 11 سبتمبر 2003 (أي في القرن الواحد والعشرين الذي نعيشه!) بقلم "أستاذ جامعي" عنوانه "السلام علي أهل الكتاب بين الحق والباطل" يقول فيه "إن التعالي على غير المسلمين والعدوان على حقوقهم كمواطنين هو من الهدي النبوي الشريف". كما أكد أن "على المسلم ألا يبدأ غير المسلم من مسيحيين أو يهود بالسلام وأن يضطرهم للسير في أضيق الطرق". وإن كان البعض قد طالب بمحاكمة المسئولين عن "حزب الجريدة" أو على الأقل - كما فعل المواطن علي يوسف علي، طبقا لرواية صحيفة الأهالي - محاكمة المسئولين عن "جريدة الحزب" بتهمة تهديد الوحدة الوطنية عن طريق "نشر ما من شأنه بث روح البغضاء والكراهية بين أبناء الوطن الواحد، ويحمل تصريحا صريحا للعدوان على حقوقهم المكفولة دستورا وقانونا"؛ إلا أن البعض الآخر يرى أنه ينبغي شكر الكاتب على دوره في إظهار الصورة كما هي، وبدون اللجوء إلى التزويق والتزوير.
- ولا داعي للكلام عن الإدارة التي يبدو أن مشاكلها تتزايد طرديا مع زيادة عدد حاملي الدكتوراة في تخصصاتها، بنفس الطريقة التي يزداد بها استفحال أزمات المرور مع زيادة أصحاب الرتب الكبيرة في إدارات المرور.
***
هل هناك من مخرج؟
الأمر صعب بلا شك، لكنك لو سألت عددا من المراقبين المهتمين المؤرَّقين، ما العمل؟ وأين الخلاص؟ لوجدت أنهم ينقسمون إلى فئات:
أولا: من يرون أن حال مصر يشبه كرة كبيرة من خيط رفيع، تحولت، بعد أن لعبت بها مجموعة من الأطفال لفترة طويلة، إلي كتلة كبيرة من العُقد. وأية محاولة لفك عقدة منها، فضلا عن حتمية فشلها، لن تؤدي سوي إلي المزيد من التعقيد أو لتقطيع الخيوط. فالأفضل، إذن، هو ترك الأمور علي ماهي عليه. وربما كان الزمن كفيلا، بطريقة ما، وبدون استعجال، بإحداث حل ما. ويكفينا في الوقت الحالي استمرار المعونات الأجنبية من "كل حدب وصوب" (بشرط ألا ننسي صب اللعنات علي مانحيها، والدعاء عليهم، هؤلاء الكفار، بخراب الديار). وهناك من بين رواد هذا التوجه أولئك الذين يشيرون إلى أن الشعب المصري قد استسلم لقدرية هذا المصير، ولذلك راح يوجه استثماراته ناحية الجنة؛ علي أمل أن يعثر هناك علي مالم يحالفه الحظ فيه بهذه الدنيا الفانية، وأيضا لأن أسعار الفائدة هناك (700? على الأقل) لا يمكن أن تنافسها أسعار البنوك الأرضية، حتي لو كانت معاملاتها حلالا.
ثانيا: من يرون أن الأمر يحتاج لا أقل من معجزة. ولذا فليس لنا إلا الدعاء نحو السماء لعل وعسي أن تتراءف علينا وترحمنا، ربما من أجل حسنات كان قد فعلها أحد أجدادنا الأقربين أو الأبعدين.
ثالثا: من يرون أن الأحوال لم تصل إلى القاع بعد. ولذلك فلا بد أن ننتظر قليلا حتى تظلم الأمور تماما ثم تنهار قبل أن يحدث ميلاد جديد.
رابعا: من يرون أننا لا نملك ترف الانتظار؛ بل علينا أن نعمل شيئا، ونعمله سريعا. ولكن قبل عمل أي شيء، ولأن الاعتراف بالحق فضيلة كبيرة، فلا بد من أن نعترف أنه، فضلا عن كون مصر في ورطة حقيقية، فإن الخروج منها بأيدينا وحدها أصبح شبه مستحيل لأن أحدا في أي من أضلاع قلعة "البنتاجون" له مصلحة في، أو قدرة على كسره؛ وأيضا (وهذه هي كارثة حقيقية) لأن الشعب المحاصر داخل "البنتاجون" أصبح عاجزا عن، وليس لديه رغبة في، الخروج منه؛ بعد أن تشكل تفكيره وضميره ووجدانه به تماما.
وبالتالي - هكذا يمضي أصحاب هذا التوجه- فلا مفر من "يد خارجية" تساعدنا على التخلص من القلعة إياها (حتى وإن ثار المُخونون والمُكفرون من دجالي "البنتاجون"). وفي بحثنا عن رسوم هندسية لنموذج مشروع إعادة بعث مصر وتحويلها إلى قلعة للحضارة والحرية والتقدم، لا بد أن ننسى أوهام (أو كوابيس) "خصوصيتنا الثقافية". فبرغم أننا ورثة حضارة عظيمة تُمثل بدون شك أم الحضارات وفجر الضمير، مازالت تبهر بمنجزاتها وآثارها العالم بأكمله؛ إلا أن الخصوصية الوحيدة التي نملكها اليوم هي خصوصية التخلف. وهو تخلف يبدو للأسف أنه مع سبق الإصرار والترصد.
guindya@hotmail.com