وفي سياق ما تناوله الأستاذ الجامعي وبمقياس الربح والخسارة أقول لذوي أي طفل لديه توجهات نحو مهنة ما وأهله يعملون جاهدين لتوجيهه باتجاه آخر:أيهما أفضل أن يكون ابنكم أمهر وأشهر حدّاد أو نجار أو ميكانيكي سيارات في المنطقة،أم أن يكون من أفشل أطباء العالم..كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى؟! كما أن تعامل المجتمع مع بعض المهن يدفع الناس إلى الابتعاد عنها رغم أن بعضهم لو امتهنها لكان مفيدا لنفسه ومجتمعه ؛في المجتمعات الغربية قد تجد طبيبة متزوجة من عامل في مصنع ،وهذا غير موجود تقريبا في المجتمعات العربية ،حيث قيمة الشخص بمهنته وإن كان لا يجيدها ،فليس كل طبيب متقن لعمله وكذلك الحال مع المهندس أو المحامي،والدليل أن لدينا أعدادا كبيرة من الأطباء ولكن هناك تخصصات مفقودة ،ونحتاج للسفر والعلاج في الخارج.
2) تدني الأجور وقوانين العمل : البعض بل ربما الكثير يبدون استعدادهم للعمل بعيدا عن تخصصاتهم في نفس المهن التي يقبلون العمل فيها في المهجر،ولكن ما يحصلون عليه من أجر لن يكون مجزيا ،ولن يصلح حالهم بل سيزيدهم إحباطا فوق إحباطهم،كما أن بعض أرباب العمل لديه –أحيانا- عقدة نفسية ممن تعلم تعليما جامعيا فيحاول استعباد أو ازدراء من تقذفه ظروفه ويقبل بأن يكون مستخدمه،هذا نابع من الثقافة الاجتماعية التي تناولتها في النقطة السابقة؛أما بخصوص الأجور فهي مسألة يتداخل فيها القانون مع الحاجة وارتفاع نسبة البطالة؛فما أجمل القوانين وما أعدلها لو وجدت تطبيقا على الأرض،فتجاهل القانون وتحريفه فيما يخص العمل والعمال وارد بل مؤكد في ظل تفشي البطالة ،ومبدأ "إن لم تقبل انت فغيرك يقبل أن يعمل عملك وبأجر أقل أو معادل لأجرك" سائد وفوق كل قانون ، فالأشخاص الذين يعملون في المهجر في المقاهي أو المطاعم أو الحدائق وغيرها يشعرون بوضوح الأمور وطبيعة الحقوق والواجبات منذ البداية فهناك معرفة بالأجر على كل ساعة عمل وما هو مطلوب منك أن تعمله وأي عمل إضافي فهو يدخل ضمن ما يسمى بـ( Over Time) ،
كما أن هناك أمرا في غاية الأهمية وهو وجود نص قانوني بالحد الأدنى للأجور يمنع بل يجرّم رب العمل إذا ما قام بتشغيل شخص بأقل من هذا الحد المبين ولو بسنتٍ واحد ،فلا عتب على من يهاجر ما دام الحال كذلك ،على الأقل من وجهة نظره؛وليس العتب على القوانين في بلاد العرب-عموما- ولكن الخلل في تنفيذها وفي ثقافة الاستغلال للظروف خاصة ارتفاع نسبة البطالة والفقر.
3) حاجة السوق وأعداد الخريجين: يفترض أن يكون في كل جامعة قسم متخصص على اتصال دائم ووفق قاعدة بيانات مع كافة المؤسسات والجهات المعنية بالتخطيط يوجه الطلبة الجدد-حسب إمكانياتهم ودرجاتهم- نحو التخصص الملائم الذي سيقيهم من البطالة بعد التخرج؛فما هو حاصل أن الطالب وأهله يرون أن هناك طلبا على خريجي التمريض مثلا في المؤسسات الطبية ،فيتوجه الطالب لدراسة التمريض ،ولا يدري وأهله أنه عند تخرجه تكون المؤسسات الطبية قد أخذت حاجتها واستوعبت كفايتها ،فينضم إلى صفوف الباحثين عن عمل ،والنتيجة هذه ماثلة أمامنا،فيجب أن يكون هناك أرقام لحاجة البلد من المهندسين والمحاسبين وغيرهم ،ويتم قبول الطلبة على هذا الأساس،وأن تكون الأولوية في التوظيف لخريجي الجامعات المحلية التي تتبع هذا الأسلوب ،لأن هناك من سيرفض الخضوع لمعايير التخطيط ويتجه للدراسة في الخارج.
هذه بعض الأمور التي تسبب ارتفاع نسبة البطالة وازدياد الباحثين عن "جنة الهجرة" وتدني مستويات المتعلمين في المجتمعات العربية ؛وكما قلت إن الإصلاح هنا يبدأ من أسفل إلى أعلى ،فيتعلم الطفل في بيته ومدرسته أن العمل مقدّس،فالنبي صلى الله عليه وسلم رعى الغنم،وعلي،كرم الله وجهه،عمل عند يهودي في غرف ماء من بئر؛ وأن الأهم هو إتقان العمل وليس طبيعته،وأن تنمى مواهب الصغير وألا تحارب ميوله المهنية التي تظهر منذ البداية ،ثم بالتخطيط السليم للعملية التعليمية وربط التخصصات بالنوع لا بالكم ودراسة حاجة سوق العمل...وأختم مقالي بأن هناك أمثالا ومفاهيم خاطئة مترسخة أدت إلى التضخم الوظيفي وازدياد الكم على حساب النوع؛مثل المثال المتداول "إذا فاتك الميري تمرغ بترابه"،فهناك ما يجب أن يُهتم به من مفاهيم مثل "صاحب الصنعة يحكم قلعة" ،وأن يعتبر المرء العمل شرفا في وطنه مثلما هو في غربته ،وغيرها من المفاهيم الثقافية التي إذا ترسخت فسنخرج من مربع رثاء الحال وجلد الذات...وللتذكير فقط فإن الصين قد حلت في عشرين عاما مشكلة 400 مليون فقير ،فكم فقيرا أصبح لدينا زيادة عما كان في هذه العشرين سنة؟!!
|