ولعل ما يثير بعض المراقبين، أن الحراك النوبي للمطالبة بحقوق سياسية وثقافية، تعدى مرحلة البيانات في الجانب السوداني، إلى تشكيل تنظيم سري - إلى غاية الآن - يدعى "حركة تحرير كوش" وكوش هي إحدى ممالك النوبة القديمة (القرن الثامن قبل الميلاد)، يطالب برفع الضيم عن النوبيين في السودان، معتبرا إياهم من الجماعات المهمشة والمضطهدة، ومشيرا في الوقت ذاته إلى حق النوبيين الكامل في "الحوض النوبي والأراضي والمياه النوبية".
ويرى الدكتور حسن الملك (نوبي سوداني) أن الدولتين أوقعتا ظلما كبيرا بالنوبيين، منبها إلى أن القاهرة والخرطوم، خدعتهم بالتهجير، بعد أن "استفادت مصر من السد العالي واستفاد السودان من خزان الدمازين" دون أن يجني التوبيون شيئا سوى التضحية بـ"بقبور أجدادنا طعاما للسمك في بحيرة النوبة التي يطلق عليها الآن بحيرة ناصر".
ويعتقد الدكتور الملك في حديثه لـ"العربية.نت" أن هناك مؤامرات ما زالت تحاك ضد النوبة ببيع أراضيهم باتفاقات سرية.ويحاجج الملك الاتهامات التي تطال النوبيين بأن بعضهم وضعوا أنفسهم رهنا لقوى خارجية تعبث بملفهم بهدف خلق توتر في المنطقة، لافتا إلى أن ما يقال في هذا الخصوص "كذبة كبيرة"، ونافيا في الوقت ذاته صفة العنصرية عن النوبة، ومؤكدا أنهم لا يسعون للانفصال عن مصر والسودان.
ويؤكد الملك أن تحركات النوبيين نابعة ذاتيا وهي وليدة "ضيم وظلم يتزايد يوما بعد آخر لمن قاسمناهم أرضنا وحضارتنا ووجدنا منهم بالمقابل نكرانا وتهجيرا وإفراغا لأرضنا وسرقة لحضارتنا وارثنا وحذفا لتاريخنا من مناهج أبنائنا الدراسية ومحوا مقصودا للغتنا".
الحكومات المتعاقبة - يقول الملك - هي من بررت الظلم والكراهية والحقد عند النوبيين باستهدافهم في أرضهم وتراثهم حضارتهم، فالنوبي يعامل بدونية عند غالب المصريين. ويرحب الدكتور الملك طبقا لحديثه لـ"العربية.نت" بالولايات المتحدة وإسرائيل، لأنهما لن يكونا بالسوء ذاته الذي يصم تعامل السودان ومصر مع النوبيين حاليا.
لكن بعض المراقبين، لا يخرجون ذلك عن إطار التشكيات والمطالبات التي انتظمت الإثنيات السودانية المختلفة في العقد الأخير، وانتعاش الدعوات لإنهاء سيطرة المركز المعتبر في عرفهم عربي إسلامي، ومنح الأطراف والإثنيات المهمشة حقوقا كاملة.
ويرى هؤلاء أن تأثير مثل هذه الحركات لن يكون قويا على نوبيي مصر. لكن ذلك بحسبهم لا يعني أن ارتفاع الصوت النوبي في السودان، سيتم تجاهله في الأوساط النوبية المصرية. ويبدي بعض النوبيين المصريين امتعاضا كبيرا من بعض مظاهر الحياة الثقافية في بلادهم - كالسينما - التي ظلت غالبا تحصر أدوارهم الحياتية في مهن متدنية، ولم تلتفت أبدا للنوبيين الذين حققوا نجاحات كبيرة في العلوم والسياسة والاقتصاد والفنون.
ويشير الروائي حجاج أدول إلى أن ذلك كله يرجع إلى كون النوبي يعامل كـ"مواطن من الدرجة الثانية"، مؤملا في تنسيق مستقبلي بين "النوبة" و"الأقباط" للعمل سويا كأقليتين من أجل حقوقهما معا. وأكد لـ"العربية.نت" أنه كغيره من النشطاء النوبيين، يلقى مضايقات من قبل الأجهزة الأمنية المصرية بسبب أنشطته.
وظلت وسائل إعلام عدة، ومراكز بحوث، وشخصيات مستقلة، في الآونة الأخيرة تثير من وقت لآخر موضوع "النوبة" إما في إطار المطالب، أوفي أطر أخرى كالبحث عن كنه حضارتهم القديمة، أو التحدث عن ثقافتهم الحالية.
وكان الناشط الحقوقي المصري سعد الدين إبراهيم (مدير مركز بن خلدون للدراسات الإنمائية) أثار في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، مسألة النوبيين المصريين وحقوقهم من خلال ندوات تناولت الأقليات.
وكان التلفزيون السويسري بدوره بث في نهاية يونيو الماضي برنامجا عن الحضارة النوبية في السودان وعن "الفراعنة السود" الذين حكموا وادي النيل كله عدة قرون. ونبه البرنامج إلى أن الحضارة النوبية هي أول حضارة قامت على وجه الأرض وأعرق حضارة شهدها التاريخ.
وأكد عالم الآثار السويسري شارل بونيه خلال البرنامج أسبقة الحضارة النوبية، مشيرا إلى كرمة (مدينة نوبية في شمال السودان، تحمل اسم إحدى ممالكهم القديمة)، بوصفها "حلقة غائبة" في تاريخ الحضارة الفرعونية. بونيه الذي ظل في شمال السودان 40 عاما، ليخرج برأي يتوقع أن يشغل الأوساط البحثية الآثارية والثقافية لاحقا، مفاده "أن أصل الحضارة الفرعونية في السودان وأن فراعنة السودان هم الذين حكموا مصر حتى بلاد فلسطين".
والطريف أن عالم آثار فرنسي كان يعمل مع بونيه في شمال السودان، ظهر في البرنامج وهو يرتدي الجلباب السوداني، ليؤكد العالمان أن الحضارة المصرية مستمدة من الحضارة السودانية. لكن الحفريات لم تكتمل تماما في شمال السودان، برأي آثاريين آخرين، وما زال الوقت مبكرا في نظر هؤلاء للجزم بما توصل إليه بونيه.
وعرف الجزء الشمالى من النوبة عند شلال أسوان عرفت باسم واوات، في حين شاع اسم "بلاد كوش" على الجزء الجنوبي، كما عرفت المنطقة لدى اليونانيين القدماء باسم "إثيوبيا". وعرفت بلاد النوبة اتحادا بين ممالكها المختلفة في 540 قبل الميلاد، وهي نوباتيا وعاصمتها فرس في النوبة السفلى بين الشلال الأول والثاني، والمقرة عاصمتها دنقلا في النوبة الوسطى بين وادي حلفا وأبوحمد، وعلوة وعاصمتها سوبا في النوبة العليا
|