الدين والسياسة والبلطجة فى المحلة
ما شهدته المحلة الكبرى فى السادس والسابع من أبريل الجارى من عنف ونهب وتخريب ليس أكثر من نتيجة لعديد من التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى عاشتها مصر طيلة الثلاثين عاما الماضية، لكن المحلة بطبيعتها الخاصة اختزلتها لتصنع منها تراجيديا جديدة عن زواج الإسلام السياسى والسياسة والبلطجة. وبقدر ما يحتاج المشهد الحالى إلى تحليل سياسى فإنه يستدعى رؤية اجتماعية لمدينة ذات طابع خاص جدا تعد ثالث أكبر المدن المصرية بعد القاهرة والإسكندرية فى المساحة والسكان، حيث يسكنها أكثر من مليونى مواطن تتنوع ثقافاتهم وأنماطهم بشكل لايكاد يجتمع فى مدينة مصرية أخرى، فهى مدينة عمالية بامتياز، تتماس مع مجتمع حضرى جدا، وتحيط بها وتتداخل معها ثقافة ريفية لم تفلح المدنية فى زحزحتها.
المحلة أيضا مدينة رأسمالية عريقة، لاتزال تحتفظ بإرث وفدى ليبرالى، مع بعض ما تبقى من سنوات الاشتراكية، وتيار دينى متعدد ومتشعب، وجد حليفا قويا فى ثقافات خليجية وافدة أطلت برأسها بقوة.
المحلة مدينة القصور الفخمة والعمارات الفارهة، ولاتزال عائلاتها الكبيرة تكتنز الثروة وتتمسك بالسلطة، بينما تخنقها العشوائيات ويعانى بعض أهلها من الفقر والبطالة. مدينة قدمت لمصر البابا مكاريوس الثالث البطريرك الرابع والأربعين بعد المائة للكنيسة القبطية، ومفتى الديار المصرية الأسبق الشيخ سراج الدين البلقينى، فى نفس الوقت الذى كان من أبرز رموزها رواد للعقل والتنوير والتجديد أمثال الدكاترة جابر عصفور وسمير سرحان ونصر حامد أبو زيد، ومئات من الشعراء والأدباء والصحفيين الذين أثروا الحياة الثقافية فى مصر كلها، لكن أصبح أحد أهم إسهاماتها الآن اللحى والسيوف والنقاب. هذا الخليط الغريب احتاج ثلاثين عاما حتى يتشكل بهذه الملامح المتناقضة، لتبدو المحلة كما ظهرت فى السادس من أبريل، لكن الطريق إلى هذه الخلطة مر بمحطات فاصلة مثلت أبرز معالم المشهد الجديد الذى اتسم بصعود قوى الإسلام السياسى والبلطجة بشكل متزامن لاتخطئه عين فاحصة.
المشهد الأول
فى المحلة حقيقة يعرفها الجميع وهى: «إذا أردت أن تنظم مظاهرة أو تطلق شائعة فعليك بالعمال»، هذه الحقيقة المحلاوية ظهرت يوم الانتخابات البرلمانية التى جرت عام 1976 فبينما نام أهل المحلة ليلتهم وهم على يقين بنجاح المرشح المدعوم حكوميا، والمنتمى لعائلة وفدية عريقة، فى مواجهة مرشح مستقل ينتمى لجمعية أنصار السنة دعمه الإخوان.. تغير كل شىء فى الصباح حين ذهبت عناصر الإخوان إلى بوابات شركة غزل المحلة وهم يحملون زميلا لهم يرتدى ملابس ممزقة تغطيها الدماء زاعمين أن المرشح الذى يدعمونه تعرض لاعتداء من أنصار المرشح الآخر جعله بين الحياة والموت. وعلى الفور تجمع عمال ورديتين لشركة غزل المحلة وخرجوا فى تظاهرة لدعم مرشح التيار الإسلامى الذى حقق فوزا عريضا على منافسه الذى كان الناس على قناعة بأنه الأحق والأجدر بتمثيلهم فى البرلمان. كان هذا المشهد بداية لتحول فى مزاج المدينة التى يتنفس أبناؤها السياسة منذ نعومة أظفارهم، وتتفتح أعينهم على المظاهرات والإضرابات العمالية التى لاتتوقف، ومنذ هذا التاريخ أيضا حافظت المعارضة والمستقلون على وجودهما البرلمانى طيلة ثلاثين عاما اقتسموا فيها مقعدى دائرة المحلة مع الحزب الوطنى، لكن حضور الدين فى انتخابات 1976 أدى إلى حضور قوى للإخوان فى المشهد السياسى للمحلة الكبرى امتد لأربع دورات برلمانية. لكنه كان فى نفس الوقت مؤشرا على بدء تراجع اليسار والناصريين الذين حافظوا على الوجود الأقوى داخل الأوساط العمالية والشعبية.
المشهد الثانى
إذا كان الدين السياسى قد سجل حضورا منذ عام 1976 فإن البلطجة عرفت طريقها إلى عالم السياسة بعدها بثلاث سنوات، وتحديدا فى انتخابات مجلس الشعب التى جرت عام 1979 فى الدائرة الثانية بالمحلة، وهى المركز، حيث القطاع الريفى الذى شهد منافسة حامية بين مرشح الوطنى ومرشح العمل انتهت بفوز مرشح الوطنى بفارق عشرات الأصوات فقط، لكن هذه الانتخابات استحضرت ولأول مرة البلطجية إلى عالم السياسة حينما حرص كلا المرشحين على الاستعانة بالبلطجية وأولاد الليل لإرهاب الناخبين وحسم المنافسة السياسية بقوة السلاح. ولأن المحلة حتى هذا التاريخ لم تعرف البلطجة فقد جرى استئجار مسلحين من مناطق أخرى، وحسمت الانتخابات فى معظم قرى المحلة تحت وقع الأسلحة النارية والبنادق الآلية، ولم يسمح للمواطنين فى نحو ثلاثين قرية من بين 55 قرية بالتوجه إلى صناديق الاقتراع التى ملأها أنصار المرشحين فى ظل حماية مسلحة غير شرعية لا أبالغ إذا قلت أنها المرة الأولى فى حياتى التى كنت أشاهد فيها سلاحا غير سلاح الشرطة فى الشوارع والميادين ومقار الاقتراع. هكذا دخلت البلطجة إلى عالم السياسة ولم تغب بعد ذلك عن أى انتخابات برلمانية أو محلية فى دوائر المحلة الثلاث، حتى فى الانتخابات التى جرت تحت إشراف قضائى كامل، أى قاض لكل صندوق.ولم تعد البلطجة آلية لحسم المنافسات السياسية والتأثير فى العملية الديمقراطية، وإنما تحولت بعد ذلك إلى مهنة أخذت تنمو وتتسع وتزدهر من يوم إلى آخر، تتركز فى مناطق بعينها يعرفها الناس جيدا ولها زعماؤها وقادتها الذين يمكن استئجار خدماتهم لمن يستطيع تحمل النفقات المادية للبلطجية.
ا لمشهد الثالث
بعد 1979 بدا أن المحلة مقبلة على تغيرات سياسية جديدة ساعدت على بروزها حرية الحركة الكبيرة التى تمتع بها الإخوان فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات، لتأتى الانتخابات النيابية فى عام 1984 بتحالف مثير للجدل بين الوفد والإخوان استطاع الفوز بمقعدين من المقاعد الستة المخصصة للمحلة وجارتها سمنود فى الانتخابات البرلمانية، ورغم البريق الكبير الذى رافق أول انتخابات يخوضها الوفد الجديد، فإن التصويت الكثيف فى الريف حيث العائلات التقليدية المنتمية للحزب الحاكم غطى على التصويت المعارض فى المدينة، بينما ضاعت أصوات اليسار الذى لم يتمكن من الحصول على النسبة المقررة على مستوى الجمهورية للتمثيل البرلمانى. وسجلت هذه الانتخابات فوز الإخوان بأول مقعد برلمانى لهم فى المحلة حافظوا عليه فى الانتخابات التالية بعد ثلاث سنوات فى تحالف مع العمل بينما فقد الوفد أحد مقعديه. وبينما استمر الإخوان فى الحفاظ على تمثيلهم السياسى غابت المعارضة عن مقاعد المحلة البرلمانية، لكن الإخوان بدأوا فى عام ألفين يحققون اختراقا جديدا فى الدوائر الريفية التى ظلت حكرا على الحزب الوطنى بانتزاع أحد مقعدى دائرة بشبيش، ووصلوا فى آخر انتخابات نيابية إلى اقتسام المقاعد الستة لدوائر المحلة الثلاث مع الحزب الوطنى، فى ظل غياب شبه كامل للميراث الوفدى والتراث اليسارى.
المشهد الاجتماعى
أحداث 1976 و1979 الانتخابية لم تكن بداية التغير السياسى والهوى المعارض فى المحلة لكنها كانت بداية لتغير اجتماعى كبير، فالمحلة مدينة طبقية تقسمت أحياؤها بشكل طبقى لافت، فالموظفون يسكنون فى منطقة، وأصحاب المصانع والتجار فى منطقة أخرى، بينما مجتمع العمال له مساكنه الموزعة طبقيا أيضا، فكبار الموظفين فى مصانع النسيج لهم حى خاص كان معزولا عن المدينة إلى حد كبير، ويمتليء بالفيللات، بينما العمال يقطنون فى منطقة جغرافية أخرى أطلق عليها السكان المحليون اسم المستعمرة. وبالتوازى مع التوزيع الطبقى للسكان والمساكن، ازدهرت الحياة الاجتماعية لكل طبقة على حدة، فكبار الموظفين بمصانع النسيج لهم ناديهم الخاص، والتجار والموظفون لهم ناد خاص بهم المعروف باسم نادى البلدية، إضافة إلى أندية اجتماعية ورياضية ذات أنشطة ثقافية لخدمة العمال.
ويبدو أن هذا التقسيم الطبقى كان أحد عوامل استقرار المدينة، وساعد فى احتواء التباين بين السكان بفضل المسئولية الاجتماعية للرأسمالية الوطنية العريقة التى كانت حاضرة بقوة حتى الثمانينيات، فيما تولت شركة غزل المحلة جانبا كبيرا من هذه المسئولية بجمعياتها التعاونية والاستهلاكية التى وفرت احتياجات الناس ، وعوضت التوزيع الطبقى السكانى. المحلة أصبحت بمثابة الحلم لكل المناطق الريفية، وحتى للمدن الأخرى المجاورة لها، تحولت منذ منتصف السبعينيات وبداية الثمانينيات إلى منطقة جذب سكانى كبير، حيث ازدهرت صناعة النسيج الخاصة وبلغ عدد مصانعها نحو خمسمائة مصنع، كما نشطت حركة التجارة وأصبحت المحلة مركزا تجاريا مهما تمد محافظات دلتا مصر باحتياجاتها. لكن سنوات الرواج الاقتصادى أعقبها ركود كبير، وأفلست المصانع الخاصة وأغلقت أبوابها، ولم تعد الكيانات الاقتصادية الصغيرة قادرة على مواجهة سياسة السوق المفتوحة، فيما تكبدت شركة مصر خسائر متتالية ووصلت ديونها وفوائدها إلى مليار