مشاركة: ملف النوبه ....القبطيه
احبائي الزوار لعلي اكون قد اوفيت بان اضع هنا جزء من بحثي الذي نلت عنه درجة الدكتوراه (امتياز مع مرتبة الشرف الاولي ) في يونية الماضي اشكر محبتكم ورغبتكم في المزيد من الاطلاع د. عاطف نجيب حنا
التناقص المسيحي بالنوبة
الملك كرنبس و الناصر بن قلاوون
تولى الملك كرنبس عرش دنقلة بعد مقتل أخيه فى سنة 1311 م و لما كانت مملكة النوبة تعانى من أشد حالات الضعف و الخنوع للسلطنة المملوكية، و كانت هناك بعض العناصر النوبية تسعى لإثارة الشغب، فقد حاول كرنبس كسب ود السلطان المملوكى، لذا فقد أعلن عن ولاءه للسلطان الناصر محمد بن قلاوون (1293 – 1341 م) ، و قدم إلى القاهرة مقدماً الجزية و البقط المقرر على بلاده و الذى أنقطع منذ فترة.( )
غير أن الملك كرنبس نجح فى تثبيت نفوذه فى الداخل بعد أن تخلص من منافسيه على عرش النوبة، و لهذا اتجه إلى التخلص من تبعيته للسلطنة المملوكية، فاظهر عداءاً واضحاً و امتنع عن أداء الجزية سنة 1315 م غير أن حركته وافقت استقرار الأمر فى الدولة المملوكية ببلوغ الناصر سناً مؤهلاً للسلطنة و استطاعته التغلب على جميع عناصر الفتنة . و هذا هو سر إرسال الحملة الناصرية الأولى سنه 1315 م إلى بلاد النوبة.( ) و الثانية فى سنة 1316 م و كان معهم أبن أخت آخر للملك داود ملك النوبة الأسبق، وكان يدعى عبد الله برشمبو( )، وهو أحد الأمراء الذين وقعوا فى الأسر نتيجة الحملات الحربية السابقة على النوبة و قد أودع أولئك سجن القلعة و اتجهت سياسة السلطنة المملوكية لتعيينهم ملوكاً و لا سيما بعض الذين اسلموا منهم،( ) و كان منهم هذا الأمير الذى أطلق علية النويرى "سيف الدين عبد الله برشنبو النوبى" وأنه تربى فى البيت السلطاني من جملة المماليك السلطانية( ) و أطلق علية القلقشندى "عبد الله نشلى أو عبد الله برشمبو و أنه قد أسلم و حسن إسلامه و أقام بمصر بالأبواب السلطانية و أجرى علية السلطان محمد بن قلاوون رزقاً"( )
و هكذا أرسل السلطان الناصر محمد هذا الأمير ليحل محل كرنبس فى عرش النوبة. غير أن سياسة تعيين ملك مسلم حكم بلاد النوبة نقطة تحول خطيرة فى تاريخ هذه البلاد، و هى إحدى العوامل الحاسمة فى سقوط مملكة النوبة المسيحية، و ذلك أن اختيار الناصر لعبد الله برشمبو سنة 1316 م لكى يكون ملكاً على النوبة أدى إلى ظهور بنى الكنز بصورة واضحة على مسرح الأحداث فى بلاد النوبة بعد أن اصهروا البيت المالك النوبى، و تزوجوا من بنات ملوكها. إذا ادعى أميرهم كنز الدولة بحقه فى مملكة النوبة، فهو فضلاً عن أنه أمير مسلم، فأن المُلك ينتقل إليه بعد خاله كرنبس حسبما يقضى به نظام الوراثة المعروف عند النوبيين.( )
عبد الله برشمبو ملكاعلي النوبة
يقول النويرى "…. و بلغ هذا النبأ الملك كرنبس ملك النوبة، فأرسل ابن أخيه كنز الدولة بن شجاع الدين نصر بن فخر الدين مالك بن كنز إلى الأبواب السلطانية و سأله شموله بالأنعام السلطانى فى توليته المُلك و قال: إذا كان يقصد مولانا السلطان أن يولى البلاد لمسلم فهذا مسلم و هو ابن أختى و الملك ينتقل إليه بعدى. فوصل كنز الدولة إلى الأبواب السلطانية فلم يجب إلى ما طلب و رسم السلطان بمنعه من العودة إلى بلاده. فأقام بالأبواب السلطانية و توجه العسكر و معهم عبد الله برشمبو"( )
وصل الجيش المملوكى إلى دنقلة ففر كرنبس و إبرام أخوه ، و لكن أجناد المماليك قبضوا عليهما بعد مطاردة قصيرة و أرسلوهما إلى القاهرة. و أستقر عبد الله برشمبو على عرش دنقلة سنة 1317 م و كان أول مسلم تقيمه السلطنة المملوكية فى حكم بلاد النوبة.( )
على أن كنز الدولة المقيم أسيراً احتال على السلطان حتى سمح له بالسفر إلى أسوان لجمع ما تأخر من المال.( ) يقول النويرى عن حكم عبد الله برشمبو " أنه غير قواعد البلاد ، و عامل أهل البلاد بغلظة و شدة فكرهوا ولايته، فلما قصدهم كنز الدولة و وصل إلى بلدة الدر و هى أول بلاد النوبة , استقبله أهل البلاد بالطاعة ، و انضموا إليه و دخلوا فى طاعته، فتقدم إلى دنقلة و خرج إليه الملك برشمبو و التقيا و اقتتلا. فقُتل برشمبو و ملك كنز الدولة إلا أنه لم يضع تاج الملك على رأسه رعايةً لحق أخواله و تعظيماً لهم و حفظاً لحرمتهم".( ) و يعلل الدكتور مسعد بتظاهر كنز الدولة بحفظ كرامة أخواله فامتنع عن لبس التاج بأن الراجح أنه لم يفعل ذلك إلا لأن التاج يحمل علامة الصليب. الأمر الذى لا يتفق و عقيدته الإسلامية.( )
كنز الدولة
بلغ السلطان نبأ مقتل برشمبو و تملك كنز الدولة، فأطلق سراح إبرام أخى كرنبس و أرسله إلى النوبة بعد أن وعدة بأن يُملكه عرش النوبة و يفرج عن أخيه كرنبس إذ هو تمكن من القبض على ابن أخيه كنز الدولة.( ) توجه إبرام فى طريقة إلى دنقلة و استقبله ابن أخيه كنز الدولة و سار فى خدمته و خرجا لتمهيد البلاد الواقعة إلى جنوب أسوان. فلما قرب من الدو قبض إبرام على كنز الدولة و عزم على إرساله إلى القاهرة، غير أن إبرام مرض و مات بعد ثلاثة أيام، فاجتمع أهل النوبة و ملكوا عليهم كنز الدولة، و جعل المملكة مستقلة و ضم إليه العرب و استعان بهم على من عادوه، و أرسل إلى السلطان وفداً يطلب إليه الاعتراف به. و لكن السلطان الناصر بن قلاوون رفض أن يكون كنز الدولة متملكاً فى دنقلة فقرر أن يسقطه من الملك. و كان ذلك فى عام 717 هـ – 1317 م.( )
كرنبس و الاعتراف بكنز الدولة ملكاً
و فى عام 1323 م عاود الناصر محمد بن قلاوون الكرة لإبعاد كنز الدولة عن عرش النوبة فجهز جيشاً لمحاربته و أطلق سراح خاله الأخر كرنبس، ( ) و يذكر المؤرخان (أبن خلدون و القلقشندى) أن كرنبس قد أعتنق الإسلام عندما كان سجيناً بالقاهرة، و أن الجزية قد انقطعت عن النوبة من يوم إسلام ملوكهم( )، و يبدو أن كرنبس عاوده الحنين لعرش دنقلة و ندم على تنازله عنه لابن أخيه كنز الدولة هارباً إلى بلاد علوة و تقلد كرنبس الحكم للمرة الثانية. غير أنه ما أن عادت القوات المملوكية إلى مصر حتى عاد كنز الدولة إلى دنقلة، و استرد عرش البلاد من خاله، و لعب كنز الدولة مع الناصر محمد بن قلاوون نفس الدور الذى لعبة سمامون من قبل مع أبية المنصور. وأخيراً لم يجد الناصر محمد مفراً من الاعتراف سنه 1323 م بكنز الدولة ملكاً على دنقلة، و ذلك لما كان يتمتع به من حب الرعية نوبيين و عرباً.( )
بداية عهد دوله بنى الكنز الإسلامية
تعد سنة 1323 م نهاية عهد مملكة مقرة المسيحية و بداية عهد دوله بنى الكنز الإسلامية. ذلك أن بلاد النوبة و أن كانت قد خضعت خضوعاً حقيقياً للنفوذ الإسلامي منذ عهد السلطان الظاهر بيبرس، إلا أن المسيحية لم يضعف شأنها فى تلك البلاد إلا بعد أن مهد السلطان الملك الناصر محمد السبيل لتنصيب أمير نوبى مسلم عليها، و بعد أن اعتلى عرشها ملوك مسلمون من بنى الكنز. و قد ظل بنو الكنز ملوكاً على بلاد النوبة و أصحاب السلطة الفعلية على جزء كبير من أقاصى الصعيد حتى الغزو العثمانى لمصر.( )
وكان من أهم أثار حملات قلاوون على بلاد النوبة أنها أقنعت ملوك علوه بقوة السلطنة المملوكية، فتقربوا إليها بالهدايا و جعلوا السلطان المملوكى حكماً فيما نشب بينهم و بين ملوك مقرة من نزاع.( )
زوال مملكة علوة المسيحية
من الواضح أن مملكة علوة المسيحية تعرضت لما سبق أن تعرضت له جارتها مقرة فى الشمال من أحداث أدت إلى تفككها و انحلالها و زوال الأسس التى قامت عليها الملكية المسيحية فيها، ثم صبغ هذه الملكية بصبغة عربية إسلامية.( )
و كانت مملكة علوة قد تعرضت لاغارات مملكة الزغاوة في بلاد دارفور منذ القرن الثانى عشر الميلادى على طرق القوافل التجارية ما بين بحيرة تشاد غرباً إلى النيل شرقاً. و ظلت موضع تهديد للزغاوة حتى نهاية القرن الرابع عشر. و كان الملك إدور ملك الأبواب قد شكى من تعرض بلاد العنج لغزو أمير أجنبى و لا يستبعد مصطفى مسعد أن يكون هذا الأمير هو أمير الزغاوة.( )
كان طمع جيران مملكة علوة فى الحصول على الرقيق منها، قد أدى إلى نزاع مستمر بين ملوك علوة و أولئك الجيران فى الشمال أو الغرب. فالمعروف أن ملوك مقرة لجئوا إلى شن الغارات على جيرانهم للحصول على الرقيق لدفع البقط، إذ لم يتوفر لديهم منه عدد كاف فضلاً عن الاتجار فيه كذلك، و لعل استمرار حاجة السلطنة المملوكية إلى الرقيق هى التى أدت إلى استمرار هذا النزاع الذى بدا واضحاً فى القرن الثالث عشر و أوائل الرابع عشر الميلادى.( ) و يعد السقوط الحقيقى لمملكة علوة فى عام 1504 م، حينما تغلبت مملكة الفونج الإسلامية بقيادة قسامة العربى، مما يعنى انتقال السيادة عليها إلى القبائل العربية( ).
شهادة الرحالة اليهودي دافيد راؤبينى
هناك وثيقة هامة للرحالة اليهودي "دافيد راؤبينى" حيث أنه فى عام 1522 م قد مر على مملكة الفونج و زار مدينة صوبا ثم توجه إلى إيطاليا و قابل البابا عام 1524 م، ثم أنطلق إلى أسبانيا ليقدم تقريره إلى ملكها. و هنا تبرز أهمية تقرير دافيد راؤبينى فيما يختص بالتاريخ السياسى لملكة الفونج و نشأتها فى أيام الملك عمارة دنقس أول ملوك الفونج و مؤسس مدينة سنار كعاصمة للمملكة (1504 م – 910 هـ). حيث صار ملوك الفونج يسيطرون على كل البلاد من الجندل الثالث – كرمة – و كل أراضى مملكة علوة السابقة. أما الأراضى الواقعة شمال الجندل الثالث إلى أسوان فكانت تحت سيطرة الأتراك( ).
تحدث راؤبينى مع البابا و ملك أسبانيا عن إمكانية توحيد القوات المسيحية الغربية لتوجيه حملة حربيه على الأتراك الذين كانوا يهددون مملكة مزعومة فى الجزيرة العربية يحكمها ملك وهمى دعاه راؤبينى "يوسف" و أدعى أنه شقيقه. و يقول "لقد قمت من أبواب شقيقى الملك يوسف و المشايخ السبعين المستشارين له. فأرشدوني أولاً أن أتوجه إلى روما و أمثل أمام البابا".( )
زوال مدينة صوبا :- أما زوال مدينة صوبا كعاصمة علوه فجاء فى روايات العبدلاب أن طائفة منهم تحت قيادة عبد الله جماع احتلوا هذه المدينة حوالى سنة 1500 م و فى سنة 1523 م اجتاز بها الرحالة دافيد و رأى هذه المدينة مدمرة تماماً. و بعد قليل زحف ملوك الفونج من سنار و جعلوا العبدلاب العرب تحت سيطرتهم. و قام ملك العبدلاب فى مكان أسمه "قرى" و حكم أراضى صوبا و الأبواب – علوة – كنائب لملوك سنار. و هكذا أشترك ملوك الفونج مع العبدلاب فى القضاء على مملكة علوة و عاصمتها صوبا. و بعد سقوط صوبا و تأسيس مملكة الفونج و مدينتهم الكبرى فى سنار لا يُعلم شيئاً عن وجود طوائف مسيحية محليه فى النوبة( ).
و قد جاء فى بعض روايات الرحالة الأجانب أن بعض الأقباط كانوا مقيمين هناك يعملون كُتاباً لدى ملوك سنار، و يعملون تجاراً أو وكلاء للملوك لاستيراد البضائع من مصر، و لكن هذا لا يثبت وجود كنيسة منظمة فى النوبة.
لم يلبث العرب أيضاً أن انقسموا على ذواتهم فى حكم ممالك النوبة و أضطرب الأمن فى البلاد و ليس أدل على ذلك مما رواه المؤرخ العربى "ابن خلدون" فى كتابه "العبر و ديوان المبتدأ و الخبر" حين قال عن انتشار عرب جهينة "و انتشروا ما بين صعيد مصر و بلاد الحبشة و كاثروا هناك سائر الأمم و غلبوا على بلاد النوبة و فرقوا كلمتهم و أزالوا ملكهم و حاربوا الحبشة فأرهقوهم إلى هذا العهد"( )
و فى الجزء الخامس من كتابه يقول "أن الجزية انقطعت بإسلامهم ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة فى بلادهم، و استوطنوها و ملكوها و ملؤها عبثاً و فساداً" و ذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا ثم ساروا إلى مصادفتهم بالصهر فافترق ملكهم، و صار لبعض أبناء جهينة من أمهاتهم على عادة الأعاجم فى تمليك الأخت و ابن الأخت فتمزق ملكهم و استولى أعراب جهينة على بلادهم، و ليس فى طريقه شيء من السياسة الملوكية للآفة التى تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض فصاروا شيئاً لهذا العهد. و لم يبق لبلادهم رسم للملك، و إنما هم رحالة بادية يتبعون مواقع المطر شأن بواد الأعراب، و لم يبق فى بلادهم رسم للملك لما أحالته صبغه البداوة العربية من صبغتهم بالخلطة و الالتحام.( )
أسباب سقوط ممالك النوبة المسيحية:–
بادئ ذي بدء يفرق الباحث بين أمرين و هما سقوط ممالك النوبة المسيحية و انتهاء العقيدة المسيحية ذاتها تماماً من بلاد النوبة. ففى حين سقطت الممالك على المستوى السياسى فى أوائل القرن الرابع عشر للميلاد على نحو ما رأينا سابقاً، نجد أن المسيحية ظلت باقية لفترة أخرى تحت الحكم الإسلامي و لكن بين هذه و تلك توجد عدة أسباب وراء التناقص المسيحي سياسياً و دينياً. و بعض هذه الأسباب أسباباً خارجية تمثلت فى المناخ السياسى العام و العلاقة بين الكنيسة و الدولة على مستوى العالمين الإسلامى و المسيحى و أثر ذلك على علاقة النوبة بجيرانها مما أدى فى النهاية إلى سقوط الحكم السياسى فيها، و لا يمكن التغاضى عن الأسباب الداخلية (و هى الأهم هنا) و التى كانت وراء انتهاء المسيحية و كان بعضها اقتصادى و اجتماعى و قبلهما و أهمها الأسباب الدينية.
أولاً: الأسباب السياسية:–
شيوع الفوضى و الاضطرابات السياسية فى الأسرة الحاكمة بمملكة دنقلة:- و قد أفضت إلى ظهور الانقسام و الانقلابات و شهوة الانتقام من بعضهم البعض و حب الرئاسة، و التى تأججت فى صدورهم و دفعت بهم للجوء إلى السلطان المملوكى، و هو الأمر الذى أعتبر كفرصة ثمينة للتدخل و توسيع هوة الشقاق و كان أهم مظاهر ذلك نشوب الحروب بين النوبة و جيوش المماليك و التى كانت دائما تنتهى بهزيمة النوبة و التدخل فى شئونها الداخلية بدليل أننا نرى تقرير الجزية لأول مرة فى عهد الملك شكنده، و تعيين الأبواب السلطانية لملك دنقلة بمثابة نائب للسلطان المملوكى.
اعتماد المسيحية على قوة العرش الملكى:- و بزوال هذه المسيحية بأسلمته تأثرت الكنيسة النوبية، ( ) أو بعبارة أخرى اعتبار المسيحية ديناً و دولة. فقد كانت الممالك المسيحية فى النوبة تتألف من ثلاث طبقات:–
الطبقة الحاكمة :- و تشمل الأسرة المالكة و على رأسها الملك الكبير و ولى العهد و حكام الأقاليم و هم نواب الملوك أو مندوبوهم بالحكم فى أقاليم النوبة الثلاثة عشر كما كان الحال فى عصر الملك قرياقوس( )0
ضعف الرابطة بين ملوك النوبة العليا و السفلى:- حتى أن ملوك علوة لم يقدموا أى عون لملوك المقرة فى حروبهم، بل بالعكس كثيراً ما سلموهم لأعدائهم خوفاً منهم و استرضاء لهم.( )
فساد كثير من ملوك النوبة و ضعفهم :- خاصةً فى العصر المتأخر حتى أن رعاياهم لم يجدون منهم حماية مما دعاهم للجوء للقبائل العربية القوية لحمايتهم من تجار الرقيق أو من بطش الملوك، و ترحيبهم بمصاهرتهم لهؤلاء الجيران الأقوياء.( )
صراع مملكة النوبة مع دولة المماليك :- وتخوف المماليك أن تقف النوبة بجوار الصليبين.
ثانياً: الأسباب الاقتصادية:
الاعتماد علي الزراعة :- اعتمد الاقتصاد فى النوبة إبان العصر المسيحى على الزراعة، و كانت أكثر الأجزاء غنى فى النوبة السفلى فيما بين الدر و توشكي و حول الدكه و ما بين فرس و الجندل الثانى، و قد كانت هذه الأماكن مناطق جذب للسكان، إلا أنها كانت تعانى من الفيضانات العالية، أو النقصان الشديد تارة أخرى نتيجة انحسار النيل، هذا غير الكثبان الرملية التى مثلت تهديداً مستمراً بطول الشاطئ الغربى للنيل مما أضطر السكان إلى هجرة أراضيهم الزراعية تحت تأثير زحفها( ). أما فى علوة فلم يستغلوا أتساع أراضيهم و خصوبتها اقتصادياً مما نتج عنه شئ من الفقر و التخلف الحضارى، أما التجارة فكانت مورداً هاماً و إحدى دعائم الاقتصاد النوبى، و ذلك بالاتجار مع مصر عبر عدة منافذ أهمها جزيرة فيله، حيث كانت تنتهى إليها سفن المسلمين و النوبة، كذلك طرق القوافل غرباً و أهمها درب الأربعين، و شرقاً حتى الموانى المطلة على البحر الأحمر و أهمها عيذاب و سواكن، و قد صدرت النوبة منتجاتها من الماشية و سن الفيل و العنبر، و تم استيراد المنسوجات بأنواعها و الأسلحة و المواد الغذائية، أما تجارة الرقيق فقد لعبت الدور الأعظم فى هذه التجارة بما قررته اتفاقية البقط المبرمة بين النوبة و مصر الإسلامية. و قد أعتمد اقتصاد النوبة لفترة على استخراج الذهب و الحديد، مما جعلها مطمعاً للغازى الشمالى أو المهاجر الشرقى.
اتفاقية البقط :- حيث كان الالتزام بها عبأ ثقيلاً على نحو ما رأينا من خلال تتبعنا لتاريخ النوبة و علاقتها بحكام مصر، فما بين الإيفاء بها أو عدم الوفاء لعدة سنوات كانت تتأرجح العلاقة بين مد و جذر، مما أدى إلى إتباع شتى أساليب الضغط لتسير الاتفاقية حسبما أتفق عليها، كما أنها أعطت الفرصة لزيادة تجارة الرقيق أو مقايضته بالسلع و المواد الغذائية، و يلاحظ أيضاً أن العملة لم تكن معروفة إلا فى الجزء الشمالي من النوبة، أما المقايضة فكانت النظام السائد فيما دون ذلك بممالك النوبة.
فرض الجزية :-منذ عصر السلطان بيبرس و بذلك أصبحت الجزية و البقط مقررتان عليها و أدتا إلى أضعاف الاقتصاد و تخريبه، كما أن وقوع مملكة المقرة تحت حكم بيبرس كجزء من السلطنة المملوكية و الذى أشترط أن يكون إيراد البلاد مناصفة بين السلطان و ملك النوبة كان أكبر العوامل هدماً لاقتصادها.
النزاع الداخلى بين مملكتى المقرة و علوه :- وكان سبياً فى قطع طرق التجارة إلى الجنوب، كما أن كثرة الحروب بين النوبة و جيوش المماليك، و لاسيما بعد أن وضع المماليك أيديهم على البحر الأحمر و موانيه سواكن و عيذاب من أهم أسباب قطع طرق التجارة مع العالم الخارجى.
تعرض النوبة لنهب مواردها :- وذلك بدء من تدخل العرب إبان العصر الفاطمى و تأسيس إمارة بنى الكنز، لذا فقد نضب معينها و لم يعد هناك ما يمكن أن يتاجر به فى أواخر القرن الثالث عشر الميلادى و حتى سقوط النوبة المسيحية.
هجمات تجار الرقيق على النوبة :- و قد أدت إلى فقر البلاد فى الأيدى العاملة المدربة، لذا فقد انتشرت المجاعات و خُربت ( )، و لاسيما فى عصر المماليك إذ بلغ من كثرتهم أن بيع الرأس بثلاثة دراهم بمصر، و هو ما يدل دلالة واضحة على مدى ما تعرضت له بلاد النوبة من نقص فى الرجال و بالتالى انهيار لاقتصادها.
ثالثاً: الأسباب الاجتماعية:
يصف أبن خلدون مجتمع النوبة فى نهايات العصر المسيحى حيث يقول "ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة و غيرها و استوطنوها و ملكوها و ملؤها عبثاً و فساداً... و لم يبق فى بلادهم رسم للملك لما أحالته صبغة البداوة العربية من صبغتهم بالخلطة و الالتحام"( ). و فى ضوء هذا يمكن أن تصنف تلك الأسباب الاجتماعية كالتالي:
تأثر النوبيين بالثقافة العربية :- تلك الثقافة الوافدة عليهم إذ طبعتهم بطابع مختلف عن الطابع القديم الذى اتصفوا به فى العهد المسيحى( ).
استنزاف القوى البشرية في النوبة :- يفسر وجود بعض النوبيين بأعداد ضخمة فى مصر للخدمة فى جيشها منذ عهد ابن طولون على الأقل ظاهرة هامة كانت ذات أثر فى اضمحلال ممالك المسيحية، فخروج هذه العناصر بطريق الشراء أو الاسترقاق هو استنزاف لقوى النوبة، و فى مقابل أن مصر لفظت بعض عناصر الشغب بها – فى نظر ولاتها الأتراك – و هم جميعاً من العرب المسلمين الذين إنسابوا إلى النوبة فأثروا تأثيراً بشرياً و ثقافياً فيما تبقى لدى النوبة من عناصر نوبية مستقرة ثم أن هذه العناصر النوبية المسيحية النازحة إلى مصر لابد و أن تحول بعضها إلى الإسلام، و أصبحت عنصراً بارزاً فيها، و شارك أولئك فى حوادث الدول الإسلامية التى تعاقبت على حكم مصر.( ) و من أشهر هؤلاء يزيد بن حبيب و كان من سبى النوبة فى حملتهم الثانية سنة 652 م، و كذلك أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم الملقب بذى النون المصرى فأصلة من النوبة و نشأ فى مصر فى القرن الثانى الهجرى، و هناك صوفية عاشت فى مصر فى القرن الرابع الهجرى تدعى تحية النوبية و من قصتها التى روتها عن نفسها "نعم أنى كنت فى بلد النوبة و أبواى كانا نصرانيين، و كانت أمي تحملني إلى الكنيسة و تجئ بى عند الصليب و تقول: قبلى الصليب، فإذا هممت بذلك أرى كفاً تخرج فترد وجهى حتى لا أقبله، فعلمت أن عنايته بى قديمة"( ),و يعلق الدكتور الحويرى على دور أسوان فى العصور الوسطى و يقول "بل كانت أيضاً رباطاً هاماً من أربطة المسلمين، ففيه يرابط المسلمون للجهاد فى سبيل الله ضد مملكة النوبة المسيحية عملاً بقوله تعالى"و اعدوا لهم ما استطعتم من قوةً و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم" (سورة الأنفال أية 60)( )
و ليس من المستبعد أن يكون للعناصر النوبية التى ذكرنا فضلاً عما قامت به فى مصر أثر واضح فى نشر الإسلام و العروبة بين أهليهم فى بلاد النوبة ذاتها حين يعاودهم الحنين لزيارتهم كما هى عادتهم حتى الوقت الحاضر( ) و من ناحية أخرى فإن عدم منع ملوك النوبة للمسلمين من الإقامة ببلادهم تنفيذاً لاتفاقية البقط يعد أول مسمار يدق فى نعش الممالك المسيحية ببلاد النوبة( )
وحدة النظام الاجتماعى :- كان من أهم أسباب نجاح التغلغل الإسلامي بين صفوف البجاه خاصة و النوبيين عامةً هو وحدة النظام الاجتماعى مع العرب، فكلاهما قبائل بدويه تعيش على الرعى، و يتوارثون عن طريق الأم (الملكة الأم فى النوبة) و توريث ابن الأخت للملك، و لم يكن كلا الفريقين الإسلامى و النوبى يتميز أحداهما على الآخر فى معظم الأحوال الاجتماعية و الاقتصادية.
رابعاً: الأسباب الدينية:
يرى د. فانتينى أن أحد الأسباب التى أضعفت الكنيسة النوبية أن الكرازة المسيحية لم تمتد و تنتشر فى كل الأجزاء و لاسيما الأماكن البعيدة من وادى النيل. و يبدو أن المسيحية كانت متأصلة فى الأسرة المالكة و أصحاب النفوذ فى الدولة، إلا أن الشعب فى الأرياف لم يدرك المسيحية على تمام حقيقتها و تربى تربية سطحية. و يدلل فانتينى على ذلك باستمرار بعض الخرافات التى ظلت إلى اليوم، و هى من العادات السابقة لدخول المسيحية فى السودان( ) أى أن المسيحية عاشت إلى جانب الأفكار الدينية الوثنية فلم تقتلع هذه الأفكار لأن اعتناق النوبيين للمسيحية لم يكن عن عقيدة و فهم و دراسة.( )
كما ان سوء حال الكنيسة المصرية، و ما تعرض له الأقباط فى مصر و بالاكثرمنذ عام 1321 م على يد السلطة المملوكية، كان له أثره فى النوبة كذلك( ). و يشير بدج Budge إلى امتداد الاضطهاد على يد القبائل العربية البدوية و تخريب كنائس النوبة و تحويل البعض منها إلى مساجد مثل كنيسة دنقلة التى تحول طابقها العلوى إلى مسجد فى عام 1318 م على يد كنز الدولة( ) و أن كان آدمزAdams ينفى ذلك تماماً و يذكر أنها حالات فردية لا تقوم دليلاً على قيام هذا الاضطهاد أو أنه استثناء لا يكسر قاعدة التعامل الطيب بين حكام مصر و جيرانهم من ممالك النوبة المسيحية( ).
يرى فانتينى أيضاً أنه لم يوجد معهد بالنوبة لتعليم و تخريج الأكليروس المحليين، لذا فقد كان كثيراً من الأساقفة و الكهنة يرسلون من قبل الكنيسة الأم فى مصر و من المحتمل أن التعليم الدينى من رجال الدين المصريين لم يلقى إقبالاً كبيراً لدى أهل النوبة الأصليين، و لما توقف إرسال الكهنة و الأساقفة فيما بعد من الخارج لم يوجد فى النوبة من يرعى الشعب المسيحى.( )
و فى الواقع أن هناك الكثير من الأساقفة كانوا نوبيو الأصل مثلما يتضح من ملامح صورهم المحفوظة بمتاحف السودان و وارسو و ليدن و المتحف القبطى بالقاهرة، و كذلك كان الأنبا تيموثاوس أسقف أبريم فى عام 1373 م من أصل نوبى مثلما يتضح من تقليد الأسقفية المعطى له و الذى وجد مع رفاته.
أيضاً ليس بالضرورة أن يكون هناك معهداً لاهوتيا لتخريج اكليروس النوبة لتدريس العلوم الدينية، كما أن مدرسة الإسكندرية اللاهوتية كانت قد أغلقت أبوابها منذ القرن السادس للميلاد( ). و لم تعود إلى الظهور إلا فى 29 نوفمبر 1893 م فى عصر البابا كيرلس الخامس( ). و لم توجد أفرع لها بالإيبارشيات إلا فى عصر البابا شنودة الثالث، أى إنه لا يوجد ارتباط بين المعاهد اللاهوتية و بقاء المسيحية و استمرارها كديانة لشعب ما من الشعوب.
أما عن عدم إرسال كهنة أو أساقفة لبلاد النوبة فهذه حقيقة تتضح من تاريخ الكنيسة القبطية , فبعد نياحة البابا يوأنس السادس (البطريرك 74) فى عام 1216 م إذ خلا الكرسى البابوى حتى عام 1235 و لم يعد هناك بمصر سوى أسقفين فقط بالوجه البحري و مثلهما بالوجه القبلى( ). و عندما اعتلى البابا كيرلس الثالث – بن لقلق – السدة المرقسية رفض إرسال أسقف إلى بلاد النوبة للاضطرابات التى عمت البلاد و الظروف السيئة التى تمر بها( ). مما أثر بالتالى على حال الرعاية و أحوال الرعية فى كنيسة النوبة لانقطاع إرسال الأساقفة و الكهنة إليها.
يرى الدكتور الجمل أن الطقوس الدينية كانت تؤدى بلغة أجنبية و لم يتعمق فيما الشعب ليشترك فى الصلاة و العبادة عن علم و معرفة.( ) و لكن ذلك غير صحيح , فالواقع الفعلى أثبت من خلال الحفائر وجود الكثير من الصلوات و أجزاء الكتاب المقدس مترجمة إلى اللغة النوبية و لهجاتها المختلفة و فى أماكن عديدة من بلاد النوبة.
أما الرأى الراجح فهو ضعف المستوى الروحى عند مسيحى النوبة فى العصر المتأخر.
|