تابع موضوع عن الجهاد كما وعدت العزيز معتز
يقول ابن حجر : (وقد فهم بعض الصحابة من الأمر في قول الله عز وجل (انفروا خفافًا وثقالاً) العموم فلم يكونوا يتخلفون عن الغزو حتى ماتوا، منهم أبو أيوب الأنصاري والمقداد بن الأسود وغيرهم .. رضي الله عنهم) فتح الباري6/28.
وقال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (انفروا خفافًا وثقالاً) وقال علي بن زيد عن أنس عن أبي طلحة :"كهولاً وشبابًا، ما سمع الله عذر أحد" ثم خرج إلى الشام حتى قتل ..
وفي رواية قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية (انفروا خفافًا وثقالاً) فقال أرى ربنا يستنفرنا شيوخًا وشبابًا .. جهزوني يا بني .. فقال بنوه : يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات .. فنحن نغزو عنك، فأبى، فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير فدفنوه بها ا.هـ تفسير ابن كثير 4/97.
ويؤيد صحة هذه الرواية عن أبي طلحة رضي الله عنه ما ذكره ابن حجر في الإصابة حيث قال :
(وقال ثابت عن أنس مات أبو طلحة غازيًا في البحر فما وجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام ولم يتغير) أخرجه الفسوي في تاريخه وأبو يعلى وإسناده صحيح .. الإصابة 1/567.
ويقول ابن حجر (إن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم، إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه) فتح الباري6/28.
ويقول ابن القيم :(.. ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرمًا، ثم مأذونًا به، ثم مأمورًا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورًا به لجميع المشركين .. إما فرض عين على أحد القولين أو فرض كفاية على المشهور .
والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع، أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء، كما قال تعالى: (انفروا خفافًا وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) وعلق النجاة من النار به ومغفرة الذنب ودخول الجنة فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الصف 10-12 . زاد المعاد 3/72
وذكر القرطبي عدة روايات عن بعض الصحابة والتابعين تدل على أنهم لا يرون للمسلم رخصة في ترك الغزو إذا أمكنه ذلك، فقال رحمه الله : (أسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص على تابوت صراف
وقد فضل على التابوت من سمنه، وهو يتجهز للغزو، فقيل له لقد عذرك الله، فقال : أتت علينا سورة البعوث (انفروا خفافًا وثقالاً) .. وقال الزهري خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له إنك عليل، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب، كثرت لكم السواد وحفظت لكم المتاع) .
تفسير القرطبي8/151.
فهذه النصوص عن بعض الصحابة والتابعين تدل على مذهبهم في الجهاد، وأنهم يرون جهاد الابتداء والطلب فرضًا على القادر .
ولكن الذي يترجح لدي والله أعلم بالصواب .. هو مذهب الجمهور القائلين بأن جهاد الابتداء والطلب فرض كفاية، إذا قام به جماعة من المؤمنين فيهم غناء لنشر الإسلام والدعوة إليه فليس على كل مسلم أن يخرج معهم، وذلك للأدلة التالية :
1ـ قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة 122.
قال القرطبي عند تفسير هذه الآية : فيها أن الجهاد ليس على الأعيان، وأنه فرض كفاية كما تقدم، إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد، وليقم فريق يتفقهون في الدين ويحفظون الحريم حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع وما تجدد نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم) تفسير القرطبي 8/293.
2 ـ قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) النساء 95.
يقول ابن قدامة محتجًا لمذهب الجمهور : ولنا قول الله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ) وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا) ، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ويقيم هو وسائر أصحابه، وقال الكاساني : وعد الله عز وجل المجاهدين والقاعدين الحسنى، ولو كان الجهاد فرض عين في الأحوال كلها، لما وعد القاعدين الحسنى، لأن القعود يكون حرامًا .
3 ـ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى بَنِي لَحْيَانَ (لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ ثُمَّ قَالَ لِلْقَاعِدِ أَيُّكُمْ خَلَفَ الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ) رواه مسلم .
وعن زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ) مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا) رواه البخاري .
4ـ فعله صلى الله عليه وسلم وسيرته فقد كان يخرج في الغزوة تارة ويبقى تارة ويؤمر غيره على الغزوة أو السرية ولم يكن يخرج جميع أصحابه بل بعضهم، وهذا أمر واضح مستفيض كما في غزوة مؤتة وغيرها، يقول السرخسي : (.. ونوعه هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود، وهو كسر شوكة المشركين، وإعزاز الدين لأنه لو جعل فرضًا في كل وقت على كل أحد عاد على موضوعه بالنقض، والمقصود أن يأمن المسلمون ويتمكنوا من القيام بمصالح دينهم ودنياهم، فإذا اشتغل الكل بالجهاد لم يتفرغوا للقيام بمصالح دنياهم) المبسوط للسرخسي 10/3.
وإذا تقرر لدينا أن غزو الكفار في عقر دارهم ودعوتهم إلى الإسلام وقتالهم إن لم يقبلوه أو يقبلوا الجزية فرض على المسلمين .
فما الذي يسقط الفريضة عن المسلمين ؟ هل يجب على المسلمين غزو الكفار في كل شهر أم في كل عام أم ماذا ؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين :
القول الأول : الجمهور على أن غزوة واحدة في العام تسقط الفريضة، والباقي تطوع، وحجتهم على ذلك أن الجزية تجب بدلاً عن الجهاد والجزية لا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقًا، فليكن بدلها كذلك .
|