تابع
ولنبدأ بصحيفة "المصري اليوم"، وهي صحيفة يومية متوازنة في تغطياتها، وبعددها الصادر يوم الأحد الموافق 28 مايو 2005، كتب الأستاذ مجدي الجلاد، رئيس تحرير الصحيفة من باريس، مقارناً بين ما جرى في استفتائي فرنسا ومصر، وفي السطور الثلاثة الأولى انتشيت أن صحيفة يومية "مستقلة" بدأت تخرج عن "بيت الطاعة" الحكومي، وتسعى إلى حد أدنى من الموضوعية، خاصة حين أكد الجلاد على لهجة "الاحترام الشديد" التي خاطب بها الرئيس جاك شيراك الشعب الفرنسي مناشداً إياهم بالتصويت بـ "نعم" لصالح الاتحاد الأوروبي، لكن وبعد تلك السطور الثلاثة اليتيمة ما لبث أن "هرول" مجدي إلى أحضان "بيت الطاعة" الحكومي، في ما بدا وكأنه "حسبة توازنات" يبدو أنها ـ والله أعلم ـ أنها سمة ملازمة لكل خياراته المهنية، فهو مع الناس.. ولكن، ومع حرية التعبير .. ولكن، ومع احترام الشعب .. ولكن، وضد المقاطعة من غير أي لكن، ومن هنا فقد لزم الرد تأكيداً على حقنا ـ كمواطنين ـ في "لكن" من طراز آخر
السيد مجدي يبدي دهشته لموقف المعارضة بمقاطعة الاستفتاء على تعديل دستوري "مريب"، متسائلاً كيف تتسق المقاطعة والمعارضة معاً، وكأن المقاطعة في حد ذاتها ليست موقفاً، وكأن المقاطعين هؤلاء مدفوعون بالكسل، وليس نتيجة قناعة مؤداها رفض القيام بدور ثانوي في مسرحية هزلية لم تعرفها مصر من قبل، فالتعديل الذي يبدو "مفصلاً" على مقاس الظروف الراهنة، ويرتب لأوضاع لم تعد خافية، ويعد حتى من ناحية الصياغة الفنية "ردة دستورية"، كما وصفها ـ بحق ـ المستشار شفيق إمام، بأنها "حطمت كل ما تحاط به الدساتير من هالة وقدسية, تحول دون استباحة بنائها الرصين وأحكامها التي تسمو علي أحكام كل القوانين"، وأنها "خرجت على الأصول الفنية عندما صيغت في مادة دستورية تتكون من ثلاث عشرة فقرة، ومن أكثر من خمسين حكما وشرطا، ومن أكثر من ستمائة كلمة, ليدخل النص الدستوري بهذا التعديل في موسوعة جينيس للأرقام القياسية للمواد الدستورية" .
كل هذا في كفة، وطريقة مواجهة الحكومة وحزبها وأجهزتها للمعترضين في كفة أخرى، التي لم تكتف بالزفة الإعلامية التحريضية على طريقة وزير الدعاية النازية "جوبلز"، بل وصلت إلى حد حشد "ميليشيات أرباب السوابق"، واستئجار "الصيّع"، من أجل "هتك عرض المعارضة"، وينبغي هنا أن نلاحظ تعمد الإساءة الجنسية تحديداً في سلوك منحط، سمعنا أنه كان يمارس في الغرف المغلقة، لكن لم نسمع من قبل أنه يجري في "عز الظهر"، وأين، على سلم نقابة الصحافيين ؟، وأمام أشاوس الأمن وجنرالاته المقبلين على "حركة" ترقيات وتنقلات، وبالتالي فالأمر لا يحتمل في حساباتهم أدنى قصور، بينما السيد مجدي يلوم المعارضة المصرية، لأنها ـ وإزاء معركة غير متكافئة بالمرة ـ قررت مقاطعة هذه المهزلة .
يسرد السيد مجدي بانبهار واضح مشاهداته عن سلوك معارضة باريس، وينقل كلاماً على لسان "صاحب مطعم" مصري يقيم هناك، يحمل فيه على "صخب وصراخ" المعارضة المصرية المنسحبة مما أطلق عليه بهتاناً "عرس الديمقراطية"، ولعل السيد مجدي في حاجة إلى تذكرته ببعض الحقائق البسيطة، ربما ينساها المرء تحت ضغط "التوازنات الدقيقة"، وحسابات رئاسة التحرير، وهي :
ـ أن المعارضة الفرنسية لا تتخيل أساساً أن يستأجر لها جاك شيراك وأمانة سياساته ـ إن كانت لديه أمانة سياسات ـ فرقاً انكشارية أو "جنجويد" الحزب لتأديبهم وتعليمهم كيف تكون أصول الوطنية، وكيف يعيشون "أزهى عصور الديمقراطية"، بينما جنرالات "الجندرمة" الفرنسية يتابعون بشبق مشهد أثداء الفرنسيات تتدحرج على أرصفة الشانزليزيه، ويخرج الناطق باسم "الاليزيه" ليهون الأمر معتبراً أنه "أمر عادي"، أن تنتهك أعراض فتيات تصادف وجودهن لسبب أو آخر في اعتراض سلمي يتترس بقلعة الحريات المسماة "نقابة الصحافيين" .
ـ أن المعارضة الفرنسية لا تعيش في ظل "حالة الطوارئ" التي تعتبر أن تجمع خمسة أشخاص جريمة تمس أمن الدولة، وتستوجب الاعتقال الإداري، فضلاً عن المحاكمة أمام نيابة أمن الدولة العليا، والاستضافة الكريمة في منتجعات لاظوغلي وجابر بن حيان وشبرا الخيمة ومدينة نصر وألماظة، وما خفي من المنتجعات "إياها"، التي تشهد ممارسات تتوارى أمامها جرائم أبو غريب وجوانتانامو خجلاً .
ـ أن المعارضين المصريين ـ ولا أدعي شرف الانتماء إليهم ـ لم يحملوا أكثر من لافتات تقول "لا لمبارك"، وأحسب أن هذا حق دستوري لأي مواطن مصري، أن يؤيد أو يرفض رئيسه، غير أننا لم نسمع أن عبد الحليم قنديل (الذي أختلف مع توجهاته 180 درجة) حمل قنبلة ليفجرها أمام ضريح سعد، ولم نقرأ أن زميلتنا التي انتهك عرضها كانت تخفي في طيات ملابسها زجاجة "مية نار" حتى تتعرض لما يمكن وصفه بحفل "باربكيو" على شرفها في قلب القاهرة، بينما يخرج الأراذل والسخفاء من زملائها في صحف يفترض أنها "كبرى" يزعمون أنها هي التي فعلت بنفسها هذا !
ـ أن شيراك أو أي من قيادات حزبه لا يجرؤ على استخدام سيارات وزارات الدولة الفرنسية في الترويج لحملته الانتخابية، ولا يمكن أن ترد بخاطرهم مجرد فكرة مطالبة شركات "رينو" و"بيجو" أن تسهم في دعم الحزب وأمانة سياساته، حتى لو كانت نبيلة حقاً كالانخراط في الاتحاد الأوروبي، وليس من أجل تعديل دستوري هو في حقيقة الأمر ليس أكثر من "كلمة حق يراد بها عين الباطل"، يأخذ باليسرى ما قدمه باليمنى، ويؤكد صدق حكمة جدتي ـ طيب الله ثراها ـ القائلة إن "الحداية مبترميش كتاكيت" .
ولا يبقى أمام المرء سوى مناشدة الزملاء الصحافيين المصريين ـ بعدما حدث ـ أن بلدهم يمر بمرحلة فرز حاسمة، لا مجال فيها لوضع قدم في الجنة وأخرى في النار، فنحن إزاء مصلحة أمة، ومستقبل بلد، وسيكون الحساب عسيراً لكل من راهن على استمرار هؤلاء "الجنجويد" في مؤسسة الفساد إلى الأبد، فالعالم تغير، ولسنا جزيرة منفصلة عما يجري هنا وهناك، وأنصحهم بتجاوز أحجية "الإصلاح الذي لا ينبع إلا من الداخل"، فهذه كلمة باطل يراد بها الباطل، إذ لم يعد هناك خارج وداخل في عالم تداخلت فيه المصالح والحسابات، وحتى لو سلمنا ـ جدلاً ـ بصحة هذه المقولة الزائفة المراوغة، فها هو الإصلاح يبدأ من الداخل بكلمة بسيطة هي "كفاية"، فلماذا تستفزهم هذه الحروف الخمسة إلى حد التشنج والعصاب؟
Nabil@elaph.com
---------
كانت الاهرام فى يوم من الايام قبطية حرة و اليوم مزبلة صفراء