فاحكم في الأمر بنفسك : من ذا الذي كان على حق ، أأنت أم سائلك ؟
تذكر السؤال الأول من تلك الأسئلة الثلاثة ، لا نصه بل معناه :
" تريد أن تمضي إلى الناس ، وأنت تمضي إليهم خالي اليدين إلا من وعد بحرية لا يستطيعون بحكم ما فطروا عليه من بساطة وحطة أن يفهموه ، عدا أنهم بالإضافة إلى ذلك يخشونه ويخافون منه ، لأنه ليس هناك ولم يكن هناك في يوم من الأيام حالة لا يطيقها البشر والمجتمع مثلما لا يطيقان الحرية .
هل ترى هذه الحجارة في الصحراء الوعرة المحرقة ؟ حولها إلى خبز تهرع إليك الإنسانية كقطيع جائع ، وتصبح شاكرة لك مطيعة إياك ، ولكنها ستظل ترتجف خوفاً من أن تسحب يدك وأن تُحرم هي من خبزك" .
غير أنك لم تشأ أن تحرم الإنسان من الحرية ، فرفضت العرض قائلاً لنفسك لا حرية صادقة حيث تـُشترى الطاعة بالخبز .
لقد أجبت بقولك: ليس بالخبز وحد يحيا الإنسان .
أفكنت تجهل إذن أن روح الأرض سيثور عليك باسم هذا الخبز الأرضي نفسه ، وأنه سيقاتلك ويغلبك ؟
وأن الجميع سيتبعونه قائلين : "من ذا الذي يستطيع أن يقيس نفسه بهذا الوحش الذي وهب لنا نار السماء ؟"
لسوف تنقضي قرون ، فيأتي يوم تنادي فيه الحكمة الإنسانية وينادي فيه العلم الإنساني بأن الشر لا وجود له ، وأن الخطيئة تبعاً لذلك لا وجود لها ، مؤكدين أن هناك جائعين فحسب . "أطعمهم تجعلهم فاضلين !" بهذه النصيحة إنما سيحملون الراية ضدك وسيقوضون معبدك . وسيقيمون في مكانه مبنى آخر ، هو "برج بابل" ثان مهدد .
صحيح أن البناء لن يتم ، كما لم يتم في المرة الأولى ، ولكن كان في وسعك مع ذلك أن توفر على الإنسانية آلام هذه المحاولة الجديدة وأن تختصر من عذابها ألف سنة . ذلك أن البشر إنما سيتجهون إلينا نحن بعد أن يجهدوا في بناء برجهم مدة ألف سنة !
سيجيئون باحثين عنا كما فعلوا في الماضي ، وسيجدوننا في الأقبية التي نكون قد لجأنا إليها (لأننا سنـُضطهد وسنـُعذب من جديد) ، سيجيئون قائلين لنا : "أطعمونا ، لأن الذين وعدونا بنار السماء قد خدعونا" .
وسننهي عندئذ بناء البرج ، لأن الذين سيطعمون البشر يستطيعون وحدهم أن يتموا هذا العمل حتى النهاية . وسوف نطعمهم نحن ولا أحد سوانا ، وسوف نطعمهم باسمك ، كاذبين عليهم بأننا نفعل ذلك باسمك .
بدوننا لن يستطيعوا أن يطعموا أنفسهم أبداً ! لن يهب لهم العلم خبزاً ما ظلوا أحراراً ، ولكنهم سينتهون إلى أن يرموا حريتهم على أقدامنا قائلين :
"استعبدونا ولكن أطعمونا" .
سيدركون هم أنفسهم أن الحرية لا تتفق وخبز الأرض ، ولا تتيح أن يصيب كل منهم من هذا الخبز كفايته ، لأنهم لن يتوصلوا إلى اقتسامه بالعدل في يوم من الأيام . وسيقتنعون كذلك باستحالة أن يكونوا أحراراً ، لأنهم ضعاف فاسدون صغار النفوس سريعون إلى التمرد والعصيان .
لقد وعدتهم بخبز السماء ، ولكني أسألك مرة أخرى : هل يـُقاس خبز السماء بخبز الأرض في نظر هؤلاء البشر الذين سيظلون إلى الأبد فاسدين عاقين ؟
إذا كانت ألوف من الناس أو كانت عشرات ألوف من الناس مستعدة لأن تتبعك في سبيل خبز السماء فماذا تفعل الملايين من الكائنات التي لن تحس بأنها قادرة على أن تتنازل عن خبز الأرض في سبيل خبز السماء ؟
أتراك لا تعطف إلا على بضع عشرات من ألوف النفوس الكبيرة القوية ، وهل يجب على ملايين البشر ، هل يجب على الجموع التي لا نهاية لعددها ، كرمل البحر ، هل يجب على هؤلاء الذين هم ضعاف ولكنهم يحبونك ، أن لا يكونوا إلا مادة للكبار والأقوياء ؟
إننا نحن نرى غير هذه الرأي ، وإن الضعاف هم أيضاً أعزة على قلوبنا . إنهم شريرون عصاة ، ولكن هؤلاء أنفسهم هم الذين يصبحون في آخر الأمر أكثر الناس طاعة وخضوعاً . سوف يعجبون بنا ويعدوننا آلهة ، لأننا نكون قد رضينا ، حين صرنا قادة لهم ، أن نحمل عنهم عبء الحرية وأن نسيطر عليهم ، فإلى هذا الحد ستكون هذه الحرية قد أصبحت كريهة في نظرهم بتقدم الزمن ! وسوف نوهمهم مع ذلك بأننا نطيعك أنت وبأننا نحكمهم باسمك . سوف نكذب عليهم من جديد ، لأننا لن نسمح لك بعد الآن بأن تتدخل في شئوننا . وسيكون هذا الكذب الضروري عذابنا .
ذلك ما كان يعنيه السؤال الأول في الصحراء ، وما رفضته باسم الحرية التي وضعتها في أعلى منزلة ، وفضلتها على كل شيء . ولقد كان ذلك السؤال يخفي مع ذلك كل سر هذا العالم .
فلو قد رضيت أن تعطي الخبز ، إذن للـّبيت ما تنتظره الإنسانية انتظاراً أبدياً منذ عهود سحيقة ، ولهدأت القلق الذي يعذب الفرد ويعذب الجماعة كليهما : "من نطيع ؟"
فلا رغبة أبقى ولا هم أبقى لدى الإنسان الذي أصبح حراً من هم العثور على سيد يعبده بأقصى سرعة .
ولكن الإنسان يتطلع إلى الخضوع لحقيقة مؤكدة لا تجحد ، حقيقة يحترمها جميع الناس برضى إجماعي . إن حاجة هذه المخلوقات الضعيفة ليست إلى اكتشاف قوة يمكن أن يطيعها هذا الفرد أو ذاك من الأفراد ، وإنما إلى اكتشاف حقيقة عليا يمكن أن يؤمن بها الجميع ، ويمكن أن ينحني لها الناس كافة . فهذه الحاجة إلى الاشتراك في العبادة هي بعينها الهم الرئيسي الذي يعذب كل فرد ويعذب الإنسانية جملة ، منذ أقدم عهود التاريخ .
فباسم هذا التطلع إلى العبادة الجماعية المشتركة إنما أفنت الشعوب بعضها بعضاً خلال الأحقاب . كانت الشعوب تصنع آلهة ثم تأخذ تتشاتم : "اتركوا آلهتكم وتعالوا اعبدوا آلهتنا . وإلا فالموت لكم ولآلهتكم !" وسيبقى الحال على هذا المنوال إلى نهاية العالم ؛ وحتى بعد زوال الآلهة سيظلون يسجدون لأصنام جديدة .
ولقد كنت تعلم هذا السر الأساسي من أسرار الطبيعة الإنسانية ، فليس يمكن أن تجهل هذا السر ، ولكنك رفضت الراية الوحيدة التي تملك قوة جذب مطلق والتي قـُدمت لك لتؤدي بجميع البشر إلى الانحناء أمامك بغير تردد - أعني راية الخبز الأرضي .
لقد أقصيت هذه الراية باسم الحرية وباسم الخبز السماوي . فانظر إذن فيما صنعت بعد ذلك ! انظر فيما فعلت باسم الحرية من جديد !
أعود فأقول لك أنه لا قلق أرسخ في قلب الإنسان من قلق الحاجة إلى العثور على من يستطيع أي يضحي له سريعاً بالحرية التي وُهبت له ، هو المخلوق التعيس منذ وُلد . ولكن لا سبيل إلى التصرف في حرية البشر إلا بتهدئة ضميرهم . ولقد كان في وسعك أن تتخذ الخبز راية لا تخطئ. أطعم الإنسان يُطعك !! فليس هناك حقيقة مسلم بها أكثر من الخبز . ولكن إذا استولى غيرك عندئذ على ضمير البشر تركوك وعدلوا حتى عن خبزك ليتبعوا ذلك الذي يكون قد أغوى نفوسهم . في ذلك كان رأيك صحيحاً .
إن سر الوجود الإنساني ليس في إرادة الحياة ، بل في الحاجة إلى معرفة السبب الذي يدعو الإنسان إلى الحياة . فالإنسان ما لم يكن على يقين من هدف حياته ، لا يقبل أن يوجد في العالم بل يؤثر أن يدمر نفسه ، ولو ملك الخبز وافراً كل الوفرة . تلك هي الطبيعة الإنسانية .
|