الموضوع: كارامازوف
عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 26-10-2005
الصورة الرمزية لـ amoni
amoni amoni غير متصل
Gold User
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: في قلب مسيحي
المشاركات: 1,626
amoni is on a distinguished road
ولكن ما الذي حدث ؟ حدث أنك بدلاً من أن تسيطر على الحرية الإنسانية أردت لها مزيداً من النمو ! فهل نسيت إذن أن الإنسان يؤثر هدوء نفسه بل ويؤثر الموت على أن تكون له ملكة حرية الاختيار في معرفة الخير والشر ؟
لا شيء يخلب اللب أكثر من حرية الضمير ، ولكن لا شيء في الواقع يعذب الإنسان أكثر مما تعذبه هذه الحرية .
فبدلاً من أن تحمل للإنسانية الأسس الراسخة الثابتة الباقية لتهدئة ضميرها ، وبدلاً من أن توفر لها هذه الأسس إلى الأبد ، عرضت عليها ما في هذا العالم من أمور سرية غامضة خارقة تفوق طاقة القوى الإنسانية ، وكنت في عملك هذا كأنك لا تحب البشر إطلاقاً ، أنت الذي إنما جئت مع ذلك لتضحي من أجلهم بالحياة ! إنك بدلاً من أن تسيطر على الحرية الإنسانية وسعتها ، وبذلك أثـقلت ، بآلامها على ملكوت الإنسان النفسي .
أردت من البشر أن يمنحوك حبهم أحراراً ، وأن يتبعوك بإرادتهم ، مفتونين بشخصك . ألغيت القانون القديم الذي كان وطيداً راسخاً، فأصبح على الإنسان أن يميز الخير والشر بنفسه ، مستلهماً حكم قلبه ، غير مسترشد في تردده إلا صورتك أمام عينيه .
أفلم تتنبأ إذن بأن البشر سينوءون بهذا الحمل الرهيب ، حمل حرية الإرادة ، فإذا هم آخر الأمر ينبذون في يوم من الأيام صورتك ويشكون في حقيقتك ؟ لسوف ينادون في النهاية بأن الحقيقة لم تكن فيك ، فمن المستحيل إلقاؤهم إلى اضطراب أشد وعذاب أرهب من الاضطراب والعذاب اللذين ألقيتهم إليهما حين تركت لهم كل هذه الأنواع من القلق ، وكل هذا العدد من المشكلات التي لا سبيل إلى حلها .
لقد وضعت أنت نفسك الأسس اللازمة لتهديم مملكتك ، فليس لك أن تتهم أحداً بتدميرها . فهل هذا ما عرض عليك مع ذلك ؟
ليس على الأرض إلا قوى ثلاث تستطيع وحدها أن تتغلب إلى الأبد على ضمير هؤلاء المتمردين الضعاف ، وأن تفعل ذلك من أجل سعادتهم ، وهذه االقوى هي : المعجزة .. السر .. والهيبة
ولقد رفضت هذه القوى الثلاث جميعاً وعلمت البشر بقدوتك أن يحتقروها . فحين نقلك الروح الرهيب الداهية إلى سطح المعبد وقال لك : "إذا أردت أن تتأكد أنك ابن الرب فألق بنفسك في الفضاء ، لأنه كـُتب أن الملائكة ستتلقفه وتسنده فلا يقع ولا يتحطم وعندئذ تعلم أنك ابن الله وتبرهن على قوة إيمانك بأبيك" ، ولكنك رفضت هذا العرض ولم تلق بنفسك في الفضاء
صحيح أنك تصرفت في تلك اللحظة تصرفاً فيه ما في تصرف إله من عظمة وجلال ، ولكن هل تتصور أن البشر ، وهم جنس ضعيف متمرد ، يملكون من القوة الروحية ما يملكه إله ؟ لقد فهمت في تلك اللحظة أن قيامك بخطوة واحدة ، بمجرد حركة بسيطة هي أن تهم بإلقاء نفسك في الفضاء كانت ستعني إغراء الرب ، وفقدانك للإيمان به ، فتتهشم أسوأ تهشم على الأرض التي جئت لتخلصها وتنقذها ، ويهلل الروح المحتال الذي كان يغريك جذلاً طرباً
ولكنني أعود فأسألك : هل أمثالك كثير في هذا العالم ؟
هل وقع في وهمك لحظة واحدة أن البشر يمكن أن يكونوا هم أيضاً فوق إغراء من هذا النوع ؟
هل في طبيعة البشر أن يتنازلوا عن المعجزة وأن يعتمدوا على حكم القلب الحر وحده في الساعات العصيبة من الحياة ، أمام المشكلات الخطيرة الأليمة التي تعرض للنفس ؟
لقد كنت تعلم أن مأثرتك ستحفظ بالكتب المقدسة إلى آخر العصور وأبعد حدود الأرض ، وكنت تأمل أن يقتدي البشر بك فيقبلوا أن يظلوا وحيدين مع الله لا يطلبون معجزة من المعجزات
ولكنك لم تقدر أن الإنسان متى جحد المعجزة أسرع يجحد الرب ، لأن ظمأه هو إلى العجائب لا إلى الرب ؛ وأنه لكونه لا يستطيع أن يحيا بغير معجزات ، سيخلق بنفسه معجزات ، فيهوى ، ولو كان متمرداً وكافراً وملحداً ، إلى خرافات سخيفة وتنطلي عليه أباطيل السحرة وخزعبلاتهم
إنك لم تنزل عن الصليب حين دعاك الجمهور إلى ذلك صائحاً من باب الاستهزاء : أنزل عن الصليب فنصدق أنك أنت
إنك لم تنزل ، لأنك مرة أخرى لم تشأ أن تستعبد البشر بالمعجزة ، وإنما أردت أن يجيئوا إليك بدافع من الإيمان الحر لا بدافع الإيمان الذي تلده العجائب
كنت تريد أن يهبوا لك محبتهم أحراراً لا أن ينصاعوا لك عبيداً أذهلهم جبروتك . هنا أيضاً أسرفت في تقدير البشر وأنزلتهم منزلة أعلى من منزلتهم ذلك أن البشر عبيد بالطبع رغم أنهم مفطورون على التمرد
انظر فيما حولك : ماذا أصبح البشر بعد انقضاء خمسة عشر قرناً ؟ من هم أولئك الذين رفعتهم إلى مستواك ؟
أحلف لك أن الإنسان أضعف وأسوأ مما ظننت . هل يستطيع هو أن يحقق ما حققته أنت ؟ إنك حين احترمته ذلك الاحترام كله قد تصرفت تصرف من فقد عطفه عليه ، لأنك سألته فوق ما يطيق ، أنت الذي أحببته أكثر من نفسك
فلو أنك قدرته أقل مما قدرته إذن لطلبت منه أقل مما طلبت ، ولكان موقفك عندئذ أقرب إلى المحبة ، لأن العبء عليه يكون عندئذ أقل ثقلاً
إن الإنسان ضعيف وضيع . لا يهمني أن يكون الآن قد ثار في كل مكان على سلطتنا ، وأنه يرى في عصيانه هذا مجداً يعتز به
ذلك غرور طفل ، ذلك غرور تلميذ . إن البشر يشبهون تلامذة صغاراً ثاروا في المدرسة وطردوا معلمهم . ولكن فرحتهم لن تدوم ، وستكلفهم ثمناً باهظاً . سوف يهدون المعابد ، وسوف يجري الدم سيولاً على الأرض
وسوف يدركون عندئذ ، سوف يدرك هؤلاء الصبية الأغبياء ، أنهم إن خُلقوا عصاة متمردين ، فليس يتيح لهم ضعفهم أن يعيشوا زمناً طويلاً في التمرد والعصيان
وسيعترفون وهم يسكبون دموعاً باطلة أن الذي وهب لهم روح العصاة قد رغب بلا شك في أن يسخر منهم . سيقولون هذا محزونين مكروبين ، وسيكون هذا القول تجديفاً يجعلهم أعظم شقاء أيضاً ، لأن الطبيعة الإنسانية لا تحتمل التجديف ، ولابد أن تثأر لنفسها منه آخر الأمر
القلق ، الاضطراب ، العذاب ، ذلك هو المصير الذي كُتب على البشر الآن ، بعد أن تحملت أنت كل ما تحملته في الماضي من أجل أن تهب لهم الحرية ! إن رسولك الكبير- يوحنا الرائي - يروي أنه أبصر ، في رؤيا ، جميع المشتركين في البعث الأول ، فرأى اثني عشر ألفاً من كل سبط
لقد كانوا ، مهما يكثر عددهم ، أقرب إلى آلهة منهم إلى بشر : قاسوا ما قاسيت وعاشوا عشرات السنين في الصحراء القاحلة ، وأضناهم الجوع ، واقتاتوا بالجراد والجذور
صحيح أن في وسعك أن تعتز بأبناء الحرية هؤلاء الذين وهبوا لك محبتهم أحراراً ، وارتضوا طائعين مختارين أن يضحوا في سبيلك بأنفسهم في سورة رائعة
ولكن تذكر أن هؤلاء ليسوا إلا بضعة آلاف ، وأنهم أشبه بآلهة منهم ببشر
والآخرون ؟ ما ذنب الآخرين إذا هم لم يستطيعوا أن يحتملوا ما احتمله هؤلاء الأقوياء من محن ؟
هل تأثم النفس الضعيفة حين لا تعرف كيف تسمو إلى فضائل مخيفة إلى هذا الحد ؟
أتراك جئت إلى هذه الصفوة ومن أجل هذه الصفوة وحدها؟
إذا كان الأمر كذلك فهو سر يفوق ما نملك من قدرة على الفهم ؛ ومن حقنا في هذه الحالة نحن أيضاً أن نلجأ إلى السر ، وأن نعلم الجماهير أن الأمر الأساسي ليس هو المحبة ولا هو أن يقرر قلبهم تقريراً حراً ، وإنما هو السر الذي يجب عليهم أن يخضعوا له خضوعاً أعمى ولو عارضهم في ذلك ضميرهم . وهذا بعينه هو ما فعلناه
__________________
From all the things i have lost i miss my mind the most
http://www.youtube.com/watch?v=pMePM...layer_embedded
الرد مع إقتباس