والكلام الذي نشر في عدد من الصحف والمجلات علي ألسنة بعض القيادات الكنسية يحاول كله أن يلقي اللوم علي المسلمين الذين أغضبتهم إهانة دينهم وقرآنهم ونبيهم. ويستعمل أدوات الشرط دائما في احتمال خطأ الكهنة، ويعد بأن تحقق الكنيسة معهم. وكلما سئل أحد القيادات الكنسية عن سر الصمت الكنسي أسبوعين كاملين تعلل بأنه كان 'لابد من فترة للدراسة والتقييم' وبأن الشحن والتظاهر جعل الكنيسة تشعر أن هناك 'شيئا مبيتا وأن مبدأ الاعتذار لن يكون هو الحل الأمثل'. ومثل هذه الإجابات التي تتهرب من المشكلة الحقيقية، ولا تواجه الأصل الذي تفرعت عنه سائر الأوضاع التي أدمت المسلمين وأضرت بممتلكات الكنائس وبعض الأقباط، هذه الإجابات إمعان في محاولة الظهور بمظهر الضحية الذي يحتاج إلي منقذ، وإبعاد صورة الكهنة والشباب والمسئولين عن كنيسة مار جرجس باعتبارهم أصحاب الخطأ الأول والجريمة الأكبر في الأمر كله.
وقد بلغت هذه المحاولات ذروتها في حديث البابا شنودة الثالث في الكنيسة المرقسية بالعباسية يوم الأربعاء 26/10/.2005 ففي هذه المناسبة الأسبوعية التي حضرها نحو ثلاثة آلاف شخص، تحدث البابا باكيا عن أحداث الإسكندرية فقال إن 'في ذهنه كلام كثير ليقوله وفي قلبه كلام أكثر، لكنه يفضل الصمت لكي يتكلم الرب'. وأثني البابا علي الرب بعبارات معتادة في الصلوات القبطية، ثم قال 'حينما تتعقد الأمور فإن يد الله تعمل وبقوة ووضوح' واستشهد البابا بجملة تقول: 'لتكن مشيئتك: إن أردت تحلها، لتكن مشيئتك، وإن أردت أن تأخذ بركة صليب نحمله لتكن مشيئتك أيضا'.
والاشارة في هذه الجمل البابوية لا تخطئها العين. إنها تقول إن الأقباط يعيشون اضطهادا يشبه اضطهاد نبي الله عيسي عليه وعلي نبينا الصلاة والسلام علي يد اليهود الذين كفروا به وأنكروا نبوته. وأن هذا الاضطهاد يشبه في نتائجه 'إن لم يحلها الله' ما يعتقده الأقباط من أن المسيح عليه السلام قد حمل صليبه علي ظهره إلي حيث عïلق عليه.
والواقع أن الأقباط يتمتعون في مصر 'مبارك' بمقادير من النفوذ والقوة والسلطان السياسي والاقتصادي والاجتماعي لم يسبق لهم أن تمتعوا بمثلها. والبابا نفسه له كلمة نافذة مسموعة لم يتخيل أحد أن تكون لممثل أقل من 6 % من السكان في مواجهة الذين يشكلون أكثر من 94 % من السكان. والذي حدث وكررت الحديث عنه في واقعتي وفاء قسطنطين وماري عبدالله كفيل بأن يؤكد ما أقول. والذي يحدث في كل أنحاء البلاد من بناء الكنائس القلاع في الوقت الذي تشترط فيه شروط معجزة لبناء المساجد، والذي يعرفه الخلق جميعا من حرية الكنيسة في اتخاذ دورها مدارس وملاعب ونواديî وفصول تعليم ومستوصفات ومشاغل، وهي مفتوحة للعبادة والاعتراف وسائر أنواع النشاط، دون أي قيد حكومي أو أمني علي كهنتها وشعبها، 24 ساعة يوميا و365 يوما سنويا في الوقت الذي تغلق فيه المساجد بعد الصلاة بربع ساعة وتفتح قبلها بعشر دقائق، ولا يسمح فيها بأي نشاط إلا الدروس الرسمية لموظفي الأوقاف.. ويخضع داخلها وخارجها ويخضع خطباؤها وروادها لرقابة أمنية مكثفة.. هذا كله يؤكد مدي النفوذ الذي بلغته الكنيسة القبطية وسائر الكنائس الإنجيلية والكاثوليكية مقارنة بمؤسسة العبادة للأغلبية التي أصبحت شبه مغلقة في وجوه أصحابها إلا سويعة من النهار والليل معا.
وحين يكون هذا هو الحال فإن دور الضحية لا يليق أن تقوم به القيادات الكنسية، ولا يجوز أن تهراق له دموع البابا الذي هو أدري الناس بما تحقق له من نفوذ وسلطان في ربع القرن الذي أدار فيه شئون الكنيسة.
ولعب دور الضحية يزيد شعور المسلمين بالقهر، وينفخ لدي العوام في نار الغلو والرغبة في الانتصار لأنفسهم ودينهم من كل قول أو فعل تبدو فيه استهانة بشيء من ذلك أو إهانة له. وهو لذلك دور يجب الحذر من الاسترسال فيه والاستمساك به لأن عاقبته وخيمة لن يحتملها أحد، لا الضحية الحقيقية ولا الضحية المïدٌîعًيîة.
(4)
قيل لي، والعهدة علي الصحفي الذي روي، إن البابا شنودة ذهب لأداء واجب المعايدة يوم 29 رمضان المبارك (بمناسبة قرب عيد الفطر المبارك) إلي مشيخة الأزهر ودار الفتوي ووزارة الأوقاف. وعند خروجه من مقر المشيخة حيث 'عيٌîد' علي صديقه شيخ الأزهر سأله الصحفي الراوي: يا قداسة البابا، هل بحثت مع فضيلة الإمام الأكبر موضوع مسرحية كنيسة الإسكندرية؟ فأجابه البابا بحسب رواية الصحفي بقوله: 'هوه احنا جايين نعيٌد ولا جايين نتخانق؟'!! (علامات التعجب من عندي).
وهذا الجواب العجيب يظهرنا أن البابا بعد كل الذي أصبح معلوما عن المسرحية وحقيقتها، له بلا ريب، وللكافة أيضا يشعر، أو يحاول أن يجعلنا نصدق أنه يشعر أنه والكنيسة القبطية الأرثوذكسية مجني عليهما جناية تجعل له أن 'يتخانق' مع القيادات الرسمية للمؤسسة الدينية الإسلامية التي لا سلطان لها، من أي نوع كان، علي المسلمين خاصتهم أو عامتهم. وأنه تجنب هذه 'الخناقة' لأنه ذهب مؤديا واجب المعايدة، لا لأي سبب آخر.
وأحب أن أقارن بين هذا الموقف المتسم بالاستعلاء علي الحق البين فيما ارتكبته كنيسة مار جرجس بمسرحيتها من جïرم في حق الإسلام وكتابه ونبيه، وبين الإقرار المحدود بالخطأ الذي ورد علي لسان الكاهن المتواضع غير المستكبر، الحبر الجليل الأنبا موسي في حديثه لمجلة روز اليوسف (عددها رقم 4038) ليعلم القراء من أين تأتي الفتن، من الذي يطمع عوام القبط في أن يقولوا ويفعلوا ما يشاءون وهم في مأمن من المؤاخذة الكنسية، فضلا عن الحساب والعقاب القانونيين.
لقد قال الأنبا موسي لروزاليوسف: 'لا شك أن هناك خطأ من الكاهن المسئول' و'شعرنا بأن إخوتنا المسلمين جرحوا من هذه المسرحية' و'لكنني وقادة الكنيسة نرفض ذلك' و'هذا لا يبرر التعرض لهذه القضية' (يقصد قضية الإرهاب) و'من حق المسلم أن يغضب ومن حقه المطالبة بالحساب والتحقيق وعقاب المخطئ، ولكن يجب ألا يكون رد الفعل بهذا العنف'.
هذه اللغة التي يستعملها الأنبا موسي، وأحبار أجلاء آخرون، وهم في سياق الدفاع عن الكنيسة، والتماس العذر لها في عدم المبادرة إلي الاعتذار الذي لم يعد الآن مطلوبا ولا مجديا تدل المتابع علي أننا أمام فريقين داخل المؤسسة الكنسية أحدهما يعرف عاقبة ما يقول ويحرص أن تكون هذه العاقبة حسنا.
لقد كنت أري وأقول إن خلافنا مع القيادة الكنسية حول بعض مواقفها في مثل قضية وفاء قسطنطين وماري عبدالله، وقضية هذه المسرحية وغيرهما، لا يؤثر بأي قدر علي علاقتنا بإخواننا الأقباط الذين تجمعنا بهم الأخوة في الوطن أو الصداقة الاجتماعية أو الجيرة بحقوقها كافة أو الزمالة في العمل أو المهنة. ويجب أن أقول اليوم أيضا: إن التفريق ضروري بين قيادة كنسية تري الخطأ ولا تقره ولا تخفي موقفها من الذين صنعوه وبين رأس الكنيسة البابا شنودة الثالث الذي يري لنفسه أو كنيسته حقا بعد كل الذي قيل وعرض علي المسرح الكنسي عن الإسلام يستحق أن (يتخانق) من أجله، ويري نفسه ضحية مهددا بالاجبار علي حمل صليبه علي ظهره. وهي رؤية لا يسوغها شيء من الواقع علي مدي ربع القرن الأخير كله.
ورحم الله الخليفة العادل عمر بن الخطاب الذي كتب لقاضيه شريح: 'إن الرجوع إلي الحق خير من التمادي في الباطل'
|