الجرح الثالث... أو ليسوا مواطنين؟
د. محمد سليم العوٌ ا
(1)
أصبح الجسد الإسلامي في مصر نهبا للطاعنين منذ أن تنازلت الدولة، أو تخلت، عن حقها أو بالأصح واجبها، في حماية مواطنيها وسلمت إلي الكنيسة الأرثوذكسية، بغير سند من القانون وبالمخالفة له، السيدتين اللتين كانتا قد أسلمتا: وفاء قسطنطين وماري عبد الله. فقد فوجئنا بعد شهور من هذا الاستسلام الحكومي للإرادة الكنسية القوية بفضيحة المسرحية السكندرية، ولما أصبح العلم بأمرها عاما لدي الكافة، ولم ينكره أحد من إخواننا الأقباط، ولا من أركان الكنيسة ولا من صغار كهنتها، طالعنا النائب العام بتصريح في صحيفة 'الأهرام' ينفي فيه وجود مسرحية، ووجودCD ، وينفي أن يكون أحد قد شاهدها! وحاولت التماس عذر له بتأويل كلامه في مقالي الذي نشرته 'الأسبوع' في 7/11/2005، فخرج بالصمت عن لا ونعم، وانتهزت القيادة الكنسية صمته هذا فحاكمت الكاهن الأب فلوباتير لأنه نشر بعد التصريحات التي تجافي الحقيقة ما ينفيها ويؤكد وجود المسرحية ووجود قرصها المدمج الذي لا يزال يتداول حتي الآن.
والأثر الذي أحدثه تصريح النائب العام ل'الأهرام' كان أشد وطأة علي كثير من المصريين من صمته وسكوته لو صمت وسكت. فقد تعود الناس علي الثقة بالنيابة العامة، واحترام كلمتها، وتصديق ما تنتهي إليه تحقيقاتها، فلما خالف تصريح النائب العام ما هو من العلم الضروري تمثلوا بقول الشاعر: وليس يصح في الأذهان شيء.. إذا احتاج النهار إلي دليل(!)
هذان الجرحان، جرح تسليم المسلمات إلي الكنيسة، وجرح عرض وتصوير وترويج مسرحية تهزأ بالإسلام ونبيه وكتابه وبرب العالمين، ثم نفي رأس النيابة العامة وجودها(!) أحدثا بالجسد الإسلامي المصري من الألم ما لم يكن محتاجا معه إلي مزيد.
(2)
لكن الانتخابات البرلمانية بدأت منذ 9/11/2005 وجرت منها مرحلتها الأولي ببدئها وإعادتها، ثم جرت الجولة الأولي من مرحلتها الثانية، وفوجئ الناس بلا استثناء بعدد الأصوات التي نالها مرشحون من الإخوان المسلمين في جميع الدوائر التي كان لهم فيها ترشيحات. وفوجئ الناس، كذلك، بأن بعض هذه الدوائر جري فيها عبث، يخالف القانون، أهدر إرادة الناخبين التي عبر عنها فرز صناديق اللجان الفرعية، فجاءت النتيجة المعلنة مخالفة لما أسفر عنه التصويت حقا وصدقا. وجري هذا العبث في كل مرة في اللجنة العامة التي تعلن النتيجة النهائية في كل دائرة. وهي لجنة يرأسها أحد رجال القضاء ويعاونه بعضهم، أو بعضهم وبعض أعضاء ما يطلق عليه (الهيئات القضائية) وهي النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة. والأولي أعضاؤها مهمتهم الرئيسية التحقيق مع موظفي الحكومة ونظرائهم في الجرائم التأديبية، ومباشرة الدعوي عن هذه الجرائم أمام المحاكم التأديبية في مجلس الدولة، والثانية أعضاؤها مهمتهم الدفاع عن الحكومة أمام المحاكم كافة في القضايا التي ترفع منها أو عليها. فلا يتصور من أولئك وهؤلاء انحياز إلي خصوم الحكومة. والذي لن يكون منهم محايدا، محبا للحق مفضلا له علي الهوي، سيكون أميل إلي مجاملة الحكومة لا إلي مجاملة خصومها. فإذا جاءت النتائج علي نحو ما ظهر من تصويت الناخبين لمرشحي الإخوان المسلمين فلا ريب في أن تلك النتائج عبرت تعبيرا صحيحا عما وضعه الناخبون في الصناديق الزجاجية من أصواتهم، وعبرت عن عدل القضاة وأخوانهم وإخواتهم من أعضاء (الهيئات القضائية) وعدم انحيازهم لهوي أو خضوعهم لترغيب أو لترهيب.
والمؤمنون بالديمقراطية، وبحق الشعوب في اختيار ممثليها اختيارا حرا، وبضرورة ضمان حرية الانتخاب وشفافية جميع إجراءاته لضمان تداول السلطة، يتوقع منهم أن يرحبوا بهذه النتائج، وأن يعترضوا علي ما وقع من عبث بإرادة الناخبين في بعض الدوائر، وأن يدينوا ما صورته العدسات وعرضته الشاشات، ونشرته الصحف، وشهدته محاضر الشرطة وأبلغ عنه القضاة الصادقون، من وقوع أعمال (بلطجة) وعنف غير مسبوقة في أية انتخابات مصرية، فإن فعلوا كانت مواقفهم الحالية متسقة مع دعاواهم السابقة.. وإن تنكبوا طريق الحق ونكثوا ما وعدوا به مواطنيهم، وتجاهلوا ما بشروا به أنصارهم فإن الذي ينكث 'فإنما ينكث علي نفسه': وستكون عاقبة هؤلاء خسرا. والذين سوٌîغ لهم حب المقاعد وطلب استمرار الشهرة أن يقبلوها بتزوير نتائج الانتخابات والعبث بإرادة الشعب في الدوائر التي رشحوا فيها عليهم أن يذكروا قول الله تبارك وتعالي: 'ومن يغلل يأتً بما غلٌî يوم القيامة' وقول الرسول صلي الله عليه وسلم: 'من غصب شبرا من أرض طïوًٌقîهï يومî القيامة من فوق سبع أîرضًين'، فما بالك بمن غصب دائرة انتخابية كاملة، ورضي بأن يجلس علي مقعدها في مجلس الشعب غلولا لخمس سنوات؟؟
(3)
بمناسبة نتائج هذه الانتخابات * التي لم تكتمل حلقاتها حتي الآن * أصابنا نحن معشر المسلمين الجرح الثالث. أصابنا به تصريحان، أحدهما للبابا شنودة، الذي نعرف له حق المعرفة قدره ونحتفظ له في نفوسنا * مهما جري في نهر العلاقة القبطية الإسلامية من مياه * بما يستحقه، والثاني لصديقنا القديم الدكتور ميلاد حنا.
فأما البابا شنودة فقد نشرت الصحف يوم الأربعاء الماضي أنه أبلغ القيادة السياسية قلقه من التقدم الذي يحققه الإسلاميون في الانتخابات الجارية. وأنا أرجو من كل قلبي أن يكون هذا الخبر غير صحيح، وأن يسارع البابا إلي تكذيبه، وألا يحيله إلي لجنة، ثم ينتظر تقريرها، ثم يغادرنا إلي الدير، ثم يقال لنا إنه لم يقرأ التصريح ولم يسمع به إلا من انتقادنا له (وهذا ما لا يزال يردده جمع من الناس عن مسرحية كنيسة الإسكندرية).
فإذا لم نسمع هذا التكذيب، أو نقرأه، وأنا أكتب هذه السطور مساء الجمعة 24/11/2005 بعد يومين كاملين من نشر الخبر، فإن من حقنا أن نقول إن هذا القلق البابوي * لو كان صحيحا * فإنه لا يجوز له التعبير عنه. وإن عبٌîر عنه بين إخوانه من كهنة الكنيسة وأبنائه من أتباعها، فإنه لا يجوز له أن يعبًٌر عنه علانية في الصحف السيارة، ولا يجوز له أن يبلغه إلي القيادة السياسية للبلاد.
وأسباب رفض ذلك كله عندي بسيطة. وكنت إلي زمن قريب أحسبها لا خلاف عليها بين الأقباط قبل المسلمين. فالمصريون لا ينقسمون إلي طوائف. والقادة الدينيون لا يعبرون عن قطاع من الشعب (طائفة) يتجمع سياسيا تحت لواء عقيدة دينية. والدولة المصرية والمتحدثون باسمها، والأقباط خاصة والعلمانيون عامة يصدًٌعون رؤوسنا منذ عقود عن ضرورة الفصل بين الدين والدولة، وبين الدين والسياسة، وبين الدين والعمل العام، بل بين الدين والعمل الخيري في مصر وخارجها.
فلماذا يجوز لقائد ديني كنسي أن يتدخل في الشأن السياسي العام؟ ولماذا يجوز له أن يخاطب القيادة السياسية في شأن تقدم الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية؟ هل رأي أن هذه الدولة ضد الإسلام أو عدوته حتي يحذرها منه؟ أم تراه لم يتذكر وهو يبلغ قلقه من نجاح الإسلاميين في الانتخابات أن 94 % من هذا الشعب (أو أقل قليلا أو أكثر قليلا) مسلمون؟ وهل يريد من شعب هذه أغلبيته الساحقة * عددا * أن ينتخب من يحب نجاحه الممثل الديني لستة في المائة من المصريين (أو أكثر قليلا أو أقل قليلا)؟!
والكنيسة في المفهوم المسيحي التقليدي الذي يحرسه البابا وكهنة الكنيسة القبطية سلطة دينية لا زمنية، فلماذا يسمح البابا لنفسه بالتدخل في شأن زمني يؤدي التدخل فيه إلي زيادة الألم في الجسد الإسلامي، وإلي تكثير الجراح التي أصابته وإلي صعوبة العلاج الذي باءت محاولتنا المتكررة لتنفيذه بالإخفاق بسبب رؤية غيرنا وتصرفاته وتحفظاته التي يسميها مخاوفه؟؟