عرض مشاركة مفردة
  #12  
قديم 23-10-2008
Room1
GUST
 
المشاركات: n/a
مشاركة: المصريون تبدأ اليوم نشر فصول كتاب المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة "الفتنة ال

مصر بين الإسلام.. والتغريب


د. محمد عمارة : بتاريخ 22 - 10 - 2008

وعلى الجبهة المصرية.. جاءت ثورة 1919م فداوت الكثير من جراحات تلك النزعات الطائفية العنصرية الانعزالية..

ـ فاجتمعت الأمة وأجمعت ـ بدياناتها المختلفة: الإسلام والمسيحية واليهودية ـ وتياراتها الفكرية المتنوعة ـ إسلاميين وعلمانيين ـ على الهوية "العربية الإسلامية" لمصر.. وتم النص على ذلك في دستور سنة 1923م :"الإسلام هو الدين الرسمي للدولة.. واللغة العربية هي لغتها الوطنية والقومية"..

ـ وأعلن ابن مصر البار مكرم عبيد (1889 ـ 1961م) ـ وهو أحد أبطال ثورة سنة 1919م وقادتها ـ عن عروبة مصر والمصريين ـ حتى قبل قيام جامعة الدول العربية سنة 1945م ـ فكتب سنة 1939م يقول:

"المصريون عرب.. وتاريخ العرب سلسلة متصلة الحلقات، لا، بل هو شبكة محكمة العقد.. ورابطة اللغة، والثقافة العربية، والتسامح الديني، هي الوشائج التي لم تقضمها الحدود الجغرافية، ولم تنل منها الأطماع السياسية منالا، على الرغم من وسائلها التي تتذرع بها إلى قطع العلاقات بين الأقطار العربية واضطهاد العاملين لتحقيق الوحدة العربية التي لا ريب في أنها أعظم الأركان التي يجب أن تقوم عليها النهضة الحديثة في الشرق العربي.
وأبناء العروبة في حاجة إلى أن يؤمنوا بعروبتهم وبما فيها من عناصر قوية استطاعت أن تبني حضارة زاهرة.
نحن عرب، ويجب أن نذكر في هذا العصر دائمًا أننا عرب، وحدت بيننا الآلام والآمال، ووثقت روابطنا الكوارث والأشجان، وصهرتنا المظالم وخطوب الزمان. نحن عرب من هذه الناحية، ومن ناحية تاريخ الحضارة العربية في مصر، وامتداد أصلنا السامي القديم إلى الأصل السامي الذي هاجر إلى بلادنا من الجزيرة العربية..
فالوحدة العربية حقيقية قائمة موجودة لكنها في حاجة إلى تنظيم، فتصير كتلة واحدة، وتصير أوطاننا جامعة وطنية واحدة.."(1)

هكذا تحدث مكرم عبيد باشا ـ حديث العالم ـ عن عروبة مصر والمصريين حضارة.. بل ومن ناحية الجنس والعرق.. فالأصل القديم للمصريين سامي.. وهم قد تواصلوا مع الساميين العرب الذين هاجروا إلى مصر في التاريخ السابق على ظهور الإسلام.(2)
كما تحدث ـ سياسيًا ـ عن الوحدة العربية، التي يجب أن تجعل كل أوطان العالم العربي "جامعة وطنية واحدة"..

وهذه الحضارة، التي أسهمت مصر في بنائها وبلورتها، والتي تنتمي إليها هي "عربية.. إسلامية".. وعن إسلامية مصر الوطن والحضارة أعلن مكرم عبيد فقال:

"نحن مسلمون وطنًا، و***** دينًا.. اللهم أجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصارًا.. واللهم اجعلنا نحن ***** لك، وللوطن مسلمين"(3)

ـ نعم.. حدث هذا بفعل تأثيرات ثورة سنة 1919م.. وتطلع الكثيرون إلى مستقبل تتجاوز فيه الأقلية الأرثوذكسية شباك الغواية الاستعمارية..

لكن قطاعات مؤثرة من نخب هذه الأقلية قد ظلت متطلعة إلى السير على ذلك الطريق.. طريق الغواية الاستعمارية.. والاستعانة بالغرب ـ وخاصة الثقافي والحضاري (أي التغريب) ـ لإلحاق مصر بالغرب، وتحويل رسالتها و"بوصلتها" الحضارية عن قبلة "العروبة والإسلام".. فلقد ظل "مشروع المعلم يعقوب" يخايل هذه القطاعات من النخبة النصرانية المصرية ـ العلمانية منها والكهنوتية ـ حتى لقد أطلقوا على هذا "المشروع" وصف: "المشروع الأول لاستقلال مصر"..دون الكشف عن طبيعة هذا "الاستقلال" ـ الذي لم يكن استقلال عن الاستعمار الغربي ـ العدو التاريخي لمصر والشرق ـ وإنما كان استقلال عن الهوية العربية والإسلامية لمصر .. أي عن "الذاتية" و"الرسالة الحضارية" لمصر ـ .

ويشهد على هذه الحقيقة، ما كتبه الدكتور لويس عوض (1915 ـ 1989م) عن المعلم يعقوب ـ بعد قرابة القرنين من هلاكه ـ .. فلقد وضعه في مصاف عظماء الأمة وأبطالها، من مثل: محمد علي باشا الكبير (1184 ـ 1265هـ ـ 1770 ـ 1849م).. وعلي بك الكبير (1140 ـ 1187هـ ـ 1728 ـ 1773م).. وجمال عبد الناصر (1336 ـ 1390 هـ ـ 1918 ـ 1970م)!!..
كما وصف لويس عوض اللغة العربية بأنها "لغة دخيلة.. وميتة.. وأنها الأغلال التي يجب تحطيمها"!..(4)
وذلك فضلاً عن هجومه على عروبة مصر.. وعلى العروبة عامة.. ووصفه لها بأنها "عنصرية.. وفاشية..وأسطورة من الأساطير"(5)

ـ ومن قبل لويس عوض، دعا سلامة موسى (1888 ـ 1958م) إلى الذوبان الكامل في الغرب ـ حتى عندما كان هذا الغرب يحتل مصر! ـ .. ودعا إلى الانسلاخ الكامل عن العروبة والإسلام، فقال:

".. أنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب.. وإذا كانت الرابطة الشرقية سخافة، فإن الرابطة الدينية وقاحة!.. ونحن نريد العامية، لغة الهكسوس، لا العربية الفصحى، لغة التقاليد العربية والقرآن"!(6)
.. وهكذا ظل "مشروع المعلم يعقوب": سلخ مصر عن العروبة والإسلام، وتغريبها.. يخايل قطاعات من النخبة الأرثوذكسية..

***

لقد بدأ التغريب ـ في الشرق ـ مسيحيًا.. جاءت به مدارس الإرساليات التنصيرية الفرنسية التي أقامتها فرنسا على أرض لبنان، والتي استقطعت فيها العديد من أبناء الطائفة المارونية ـ الكاثوليكية.. ذات الهوى الفرنسي! ـ .. وذلك لصناعة نخبة تقدم النموذج الحضاري الغربي إلى الشرق، ليكون بديلاً عن النموذج الحضاري الإسلامي.. وذلك عن طريق تخريج "جيش ـ ثقافي ـ متفاني في خدمة فرنسا في كل وقت"!.. وحتى "تنحني البربرية العربية ـ (!!!) ـ لا إراديا أمام الحضارة المسيحية لأوروبا"! ـ بتعبير القناصل الفرنسيين ببيروت في القرن التاسع عشر ـ (7)
وإذا كان التغريب قد تعدى نطاق الطوائف المسيحية الشرقية، فشمل قطاعات من النخب المسلمة، فلقد ظل ـ في الإطار الإسلامي ـ خيار قطاع محدود من النخبة، بينما تطور ـ على الجانب المسيحي ـ ليصبح خيار المؤسسات الفاعلة، التي رأته البديل عن النموذج الإسلامي، وخاصة بعد تصاعد المد الإسلامي عقب إفلاس النموذج العلماني ونماذج التحديث على النمط الغربي..
فلما حدث تغرب الكنائس الوطنية الشرقية ـ بتأثير الحداثة الغربية.. والمذاهب المسيحية الغربية.. ومجلس الكنائس العالمي ـ عمت بلوى تغرّب مراكز التوجيه الديني والعلماني لدى أغلبية المسيحيين الشرقيين!.. على حين ظل التغريب في النخبة المسلمة نتوءًا شاذًا لا تأثير له في الشارع الإسلامي.. فلما تعاظم "اليقظة الإسلامية المعاصرة" دُفعت هذه النخبة المسلمة المتغربة إلى "نفق الإفلاس"!..

ـــــــــــــــــــــــ

* هوامش:

1ـ مكرم عبيد ـ مجلة (الهلال) عدد إبريل سنة 1939م.
2ـ للمقريزي كتاب نفيس في هذا الموضوع، عنوانه: (الإعراب عمن نزل بأرض مصر من الأعراب). تحقيق: د. عبد المجيد عابدين ـ طبعة القاهرة.
3ـ صحيفة (الوفد) عدد 21/1/1993م.
4ـ د. لويس عوض (تاريخ الفكر المصري الحديث) جـ 1 ص 183و184و186و194و197و209ـ طبعة دار الهلال ـ القاهرة سنة 1969م.
5ـ الأهرام في 8و20 إبريل، 11 مايو 1978م، و(السياسية الدولية) عدد أكتور سنة 1978م.
6ـ سلامة موسى (اليوم والغد) ص 5 ـ 7 ، 200 و201 طبعة القاهرة سنة 1928م.
7 ـ من محفوظات أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية لسنوات 1840 ـ 1842، 1848 ، 1897 ، 1898م. انظر: محمد السماك (الأقليات بين العروبة والإسلام) طبعة بيروت سنة 1990م.
الرد مع إقتباس