عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 30-03-2011
الصورة الرمزية لـ makakola
makakola makakola غير متصل
Moderator
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
المشاركات: 6,270
makakola is on a distinguished road
عشر دانات - طارق حجي




طارق حجي


الحوار المتمدن - العدد: 3321 - 2011 / 3 / 30

الدانة الأولي : كانت (ولاتزال) زيارتي لكليات الدراسات الشرقية بعدد من أعرق الجامعات الأوروبية مصدر سرور شخصي وحيوية عقلية بلا حدود. فما أروع وأمتع الساعات التى قضيتها بأقسام الدراسات الشرقية بجامعات لايدن (هولاندا) و درم أو درهام (بريطانيا) وهايدلبرغ (ألمانيا) و نابولي (إيطاليا)، وغيرها. منذ أيام (18 مارس 2011) كنت في جامعة كاليبرا بأقصى جنوب إيطاليا ، وفي حوار مع أستاذ قد يصح وصفه بأحد أهم أستاذة دراسات التصوف الأسلامي في أوروبا اليوم (البرتو فينتورا). تطرق الحوار لأبن رشد (الذي يمثل أحد أهم المحطات الفكرية في حياتي) ومحي الدين ابن عربي (الذي تخصص البروفيسور فينتورا في دراسة حياته وأعماله). ومن هذا الحوار تعلمت ما لم أكن أعرفه من قبل عن علاقة ابن عربي بأبي الوليد إبن رشد . لا أقصد بالعلاقة الإعجاب الفكري الذي كان يكنه ابن عربي لأفكار ابن رشد ، وإنما أعني علاقة المودة الشخصية بينهما والتي جعلت محي الدين ابن عربي هو الذي يقوم بتكفين ودفن ابن رشد بنفسه. مات ابن رشد في المنفى وجهزه للدفن محي الدين ابن عربي وحمل جثمانه على دابة بشكل درامتيكي يستحق الوصف . وضع جسد ابن رشد في صندوق خشبي على يمين الدابة ووضعت مؤلفات ابن رشد في صندوق آخر على يسار الدابة ، وأقامت التوازن بين الصندوقين قطعة قوية من الخشب وضعت وسط ظهر الدابة التى سارت ومن وراءها محي الدين ابن عربي وآخرون في مشهد درامتيكي كانت كتب ابن رشد فيه هي التي حفظت التوازن مع الجسد الميت لصاحب أعظم العقول (فى إعتقادي) في تاريخ المسلمين . وكعادتي لم أتقبل القصة التي رواها البروفيسور فينتورا دون تحقيق . فما أن أتيح لي أن أكون على مقربة من العديد من الكتب التي وضعت عن ابن رشد حتى تحققت من صدقية وصواب القصة التي رواها البرفيسور الإيطالي الذي أفنى عمره في دراسة محي الدين ابن عربي. ومما ينبغي تسليط الضوء عليه هنا هو ذلك الود الكبير بين صوفي عظيم وبين مفكر عظيم ، وهو ود مفقود كلية بين فقهاء الإسلام السني وبين عبقري مثل ابن رشد وهذا موضوع يستحق العودة له بتوسع وتعمق أكبر.

الدانة الثانية : كتب الكثيرون عن الفساد الشخصي والعائلي للرئيس المخلوع حسني مبارك وكل أفراد أسرته . ولكن أحدا لم يكتب عن الجهل الأسطوري وإنعدام التكوين العلمي والثقافي لهذا الطاغية - اللص ! وقد أتيح لي خلال السنوات من 1986 الى 1996 أن ألتقي به ، بل وزار مواقع (لإنتاج البترول والغاز) تتبع لشركات كنت أتولي رئاستها. وخلال تلك الزيارات ، أتيح لي أن ألمس بنفسي أن مصر كان يحكمها رجل مطلق الجهل والضحالة المعرفية والضآلة الثقافية . وأجزم أن الرجل لم يطالع فى حياته كتابا جادا واحدا . بل وكان يفتخر بذلك ! ولما كانت من "هواياتي" رسم صورة للتكوين الثقافي لأي إنسان أتعامل معه من خلال "نوعية مفرداته" ، فقد كنت أذهل من الحوار من الرئيس المخلوع ! فقد كان يباغتني بمستوي من المفردات قاطعة الدلالة على تأهله لصفة "أجهل من حادثت" ! ... وقد تكرر ذات الشيء مع زوجته (وهى أشد من بعلها غطرسة وإمعانا فى التعالي والترفع على بني جلدتها ، شأنها شأن معظم أبناء وبنات الأوروبيات مثلها). وكنت أذهل من سطحيتها الممزوجة بغطرسة يندر تكرارها ! ذات مرة (وكنت وقتها رئيسا لمكتبة مصر الجديدة ، وقبل أن ألقي لها بإستقالتي بسبب تدخلها فى أسلوب إدارتي للمكتبة) قمت بتنظيم سهرة "موتزارتية" ( فى الذكري السنوية لوفاة فولفغانغ أماديوس موتزارت فى 5 ديسمبر). وكان المخطط له أن تعزف أوركسترا القاهرة السيمفوني بقيادة صديقي المايسترو أحمد الصعيدي عددا من أعمال موتزارت الأخيرة (ومن بينها اللحن الجنائزي الذى مات موتزارت وهو يكتبه) . فلما عرفت بأن سوزان مبارك ستحضر الليلة الموسيقية ، إقترحت على المايسترو الصعيدي أن يبدأ بعمل من أعمال موتزارت يكون بمقدورها (أي سوزان مبارك) إستيعابه وإستملاحه (ولو جزئيا) . وكان إقتراحي الذى قبله المايسترو المصري/العالمي هو البدء بالسيمفونية رقم 40 لموتزارت لأن الأذن الشرقية لا تستغربها (كما سنستغرب مثلا معظم أعمال مؤلفيين موسيقيين مثل فاغنر أو ليست أو منديلسون) ! ومع بداية الحركة الثانية من الحركات الأربع لسيمفونية موتزارت رقم 40 حتى همست فى أذني سوزان مبارك باللهجة المصرية : " قل له يختصر " !!!!!!! أشحت بوجهي كأنني لم أسمعها وكلي إزدراء ومقت للظروف التى جعلت أمثال هؤلاء الجهلة-اللصوص يقودون أجل إسم فى تاريخ الأوطان : "مصر" ... بعد واقعة "قل له يختصر" ، إعترضت سوزان مبارك على إستضافة مكتبة مصر الجديدة (بدعوة مني) للدكتور مراد وهبة ليتحدث عن "التعليم فى مصر - من مدرسة التلقين لمدرسة الإبداع" ... فما كان مني إلا أن ألقيت لها بإستقالتي (ديسمبر 1997) منهيا المائة يوم اليتيمة التى تعاملت فيها من تلك المرأة التى عجل طموحها الأعمي (والذى لا يقوم على أي أسس) بنهاية زوجها التراجيدية وتسويد صفحته فى تاريخ مصر كأجهل وأفسد من حكمها على مر القرون.

الدانة الثالثة : سألني محدثي : "لماذا تكره السعودية لهذا الحد ؟ " ... فقلت له : " أنني لا أكره السعودية ولا أحبها ، ولكنني أرفض وأستهجن وأكافح المناخ الثقافي الذى يسود فيها والذى تصدره لوطني أي لمصر ، كما تصدره لمعظم مجتمعات عالمنا المعاصر" . ولا شك أنني أرفض وأستهجن وأكافح دور المؤسسات الدينية فى السعودية ، وأراه "أس الداء منذ إنعقاد حلف المحمدين ، محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب فى الدرعية سنة 1755" . ولاشك أنني أرفض ولأستهجن وأكافح القيود التى فرضها رجال دين سعوديون يمثلون قمة الجهل والتخلف والماضوية على المرأة السعودية . ولاشك أنني أرفض وأستهجن وأكافح النشاط المحموم للمؤسسة الدينية السعودية لنشر النموذج الوهابي/السعودي للإسلام ، وهو نموذج سبب (من الخراب وتشويه السمعة) للإسلام والمسلمين (خلال نصف القرن الأخير) ما لم يقم بنظيره من يسمهم البعض بأعداء الإسلام . ولكن هذا كله لا علاقة له بالبشر (أي بالسعوديين) ولا علاقة له بالحب والكره . وفى إعتقادي أنه عندما يثور رجال "دشداشة-لاند على رداءهم غير المناسب للعصر ، وبالذات "مانع التفكير" المسمي بالشماغ، وعندما تثور نساء تلك المنطقة ضد مبدأ أن يحدد لهم الرجال ما يفعلون ويلبسون وما لا يفعلون وما لا يلبسون ، ستكون منطقتهم" على "أعتاب التمدن" !

الدانة الرابعة : من أكثر ما يثير سخريتي ، أن يطلق كثيرون فى المجتمعات الناطقة بالعربية تسمية "العلماء" على "رجال الدين" ! فكيف يمكن أن نطلق إسم "العالم" على الشيخ فاتك بن ضاري بن نكد بن جهمان ؟ والرجل لا يقدر على قراءة (وفهم) صفحة واحدة من كتاب لأرسطو أو سبينوزا أو كانط أو هيغل أو أوجست كومت أو كيرككيغارد أو وايتهد أو برتراند راسل أو مارتن هايدغر أو سارتر أو جون ديوي ؟ كيف نسميه بالعالم وهو لا يدرك هل جون ستيوارت ميل وريكاردو ومالثوس وفرويد ودوركهايم هم من رواد العقل الإنساني أم أنهم ماركات سيارات ؟!؟

الدانة الخامسة : فى سنة 1914 يغادر طه حسين (أبهر أنوار العقلنة والتنوير فى سائر المجتمعات الناطقة بالعربية) الإسكندرية على متن سفينة إتجهت للشمال الغربي . يقول طه حسين : وعلى ظهر السفينة من الإسكندرية لمارسليا خلعت "العمامة" عن رأسي وعن قلبي !!!! والمعني بغير حاجة لشرح

الدانة السادسة : في ظني أن محاكمة كل من كان من رجال حسني مبارك وسوزان مبارك وجمال مبارك فى كل الدوائر (السياسية والإقتصادية والإعلامية والثقافية) ستكون هى "المطهر" (بحسب دانتي أليغيري) الذى يضمن لمصر ولأبناءها ولبناتها أن عهد أسود الطغاة-اللصوص (حسني مبارك) قد إنتهي كلية.

الدانة السابعة : إلتقيت (بحكم حتميات العمل) بالرئيس المخلوع حسني مبارك مرات عديدة ... وفى كل مرة كنت أشعر بعار لا حد له ! وكان يغمرني شعور طاغ بالخجل ! أهذا "الجاهل" هو رئيس مصر صاحبة الإسم الأمجد بين الأمم ؟ وحتى الآن ، فليست لدي إجابة عن سؤال ملح : "لماذا إختار أنور السادات رجلا بمثل هكذا سطحية وجهل وخواء ثقافي ليكون نائبا لرئيس الجمهورية ؟ " ... لماذا ؟ وكيف ؟ وبأي غرض ؟

الدانة الثامنة : سمعت بإذني من مسؤول مصري كبير منذ أكثر من عشر سنوات أن وزارة الداخلية المصرية قد عثرت أخيرا على "الترياق" الشافي من "سم الإخوان المسلمين" ! وأسهب المسؤول الكبير يومذاك فى شرح نوعية الترياق المعجز وهو "تشجيع وتقوية الإسلاميين السلفيين لضرب الإخوان المسلمين" !! وهذا مثال آخر على عواقب وجود حكام ومسؤولين كبار خاليين من الثقافة والمعرفة والرؤية الثقافية ... فالسلفيون أكثر خطورة على أي مجتمع عصري من الإخوان أنفسهم ... وما هذا إلا عرض (من عشرات الأعراض) لعهد طويل من قيادة الجهل لأهم دولة فى الشرق الأوسط وأفريقيا .

الدانة التاسعة : منذ أيام كنت أسير فى مدينة تورينو ، وبينما أنا أمام قصر الملك قيكتور إيمانويل وعلى بعد خطوات من "المتحف المصري" (الذى يضم أكبر مجموعة من الآثار المصرية القديمة خارج مصر) سيطر علي شعور بأن الحياة الواقعية أكثر "درامية" من أي عمل درامي . محمد علي (مؤسس مصر الحديثة) يرسل حفيده "إسماعيل بن إبراهيم" (والذى سيحكم مصر ما بين 1863 و 1879) للدراسة فى إيطاليا. ويقع إسماعيل فى عشق إيطاليا . وعندما يقوم (وهو حاكم مصر) بإنشاء أول دار أوبرا فى الشرق الأوسط ، يطلب أن تكون دار الأوبرا المصرية "نسخة" من دار أوبرا تورينو. وعندما يعد لإحتفالات مصر بإكتمال عمليات حفر قناة السويس ، يضمن برنامج الإحتفالات عرض أوبرا جديدة هى أوبرا عايدة التى وضع موسيقاها المؤلف الموسيقي الأشهر غوزيبي فيردي (يوسف الخضر ! ) ... وعندما تجبر بريطانيا وفرنسا إسماعيل على التنحي عن عرش مصر (فى 1879) يسافر إسماعيل لمدينة تورينو ليعهد للملك فيكتور إيمانويل الثاني بتنشئة أصغر أبناءه "أحمد فؤاد" (المولود فى 1868 والذى سيصبح حاكم مصر من 1917 وحتى وفاته فى 1936) ... وبالفعل ينشأ "فؤاد" فى تورينو ، ويتعلم فى مدارسها ، ثم يتخرج من أكاديميتها العسكرية ويصبح ضابطا بالحرس الملكي لفيكتور إيمانويل !! ... وعندما يصبح "أحمد فؤاد" سلطان مصر (يوم الخميس 9 أكتوبر 1917) يوظف عشرات الإيطاليين بالقصر ، حتى تصبح الإيطالية هى لغة القصر الأولي ! ... وفى ظل هذه البيئة يولد وينشأ "فاروق" والذى ستكون الإيطالية أقرب اللغات لقلبه ! وفى سنة 1946 يصوت الإيطاليون ضد بقاء النظام الملكي ، فيختار آخر ملوك إيطاليا (فيكتور إيمانويل الثالث) أن يقضي آخر سنوات عمره فى الإسكندرية (والتى سيموت ويدفن فيها) ... وعندما يتنازل الملك فاروق عن عرش مصر ويغادر البلاد يوم السبت 26 يوليو 1952 ، يختار إيطاليا لتكون مقر إقامته فى المنفي ، وفيها يموت (مسموما ، على الأرجح) يوم 18 أبريل 1965 .... مر كل ذلك بخاطري وأنا أدلف للمتحف المصري فى تورينو مقر ملوك آل سافوا.

الدانة العاشرة : لم أبدأ فى الإختلاط بالمجتمع المصري (بشكل كبير) إلا منذ 1996 ! قبل ذلك ، كانت علاقاتي وإتصالاتي معظمها بغير مصريين (من كافة الجنسيات : أوروبية وأمريكية وأفريقية وآسيوية وأسترالية) . وخلال تلك السنين ، راعني أنني بين خيارين كليهما "حنظلي المرارة" ! ... فأنا بين دائرتين من البشر : دائرة تجمعني بأفراده الإهتمامات الثقافية والفكرية والفنية ، ودائرة تجمعني بأفرادها "روابط إجتماعية" ... دائرة المثقفين ، ودائرة الطبقة ! ... أما الدائرة الأولي ، فأفرادها أذكياء وأصحاب محاصيل معرفية ثرية ، ولكن جلهم مشرب بمرارة موجعة ! ... وأما الدائرة الثانية ، فأفرادها جلهم أغبياء وسطحيون وتافهون (كالبطيخ ، بحسب تعبير نزار قباني) .... وهكذا ، تواصل الحياة تكرار البرهنة على أنها (حسب تعبير "توفيق الحكيم") "رواية هزلية" ... وهو ما كان عنوانا لآخر كتبه : الدنيا رواية هزلية.
__________________
لم اكتم عدلك في وسط قلبي تكلمت بامانتك وخلاصك لم اخف رحمتك وحقك عن الجماعة العظيمة اما انت يا رب فلا تمنع رأفتك عني تنصرني رحمتك وحقك دائما
الرد مع إقتباس