عرض مشاركة مفردة
  #11  
قديم 09-06-2006
copticdome
GUST
 
المشاركات: n/a
الأب متـي المسكين والثقافة القبطية‏(1)‏


حاول الأب متي المسكين‏,‏ غرس الاتجاه الروحي والبعيد عن التعصب في نفوسنا وعقولنا ووجداننا‏,‏ وما أحوجنا في هذه الأيام التي نعيشها‏,‏ إلي تلك الروح التي أخلص لها مفكرنا الأب متي المسكين‏.‏
إنه يمثل نموذجا للجمع بين النظر والعمل‏,‏ فحياته هي فكره‏,‏ وفكره هو حياته‏.‏ وما أحوجنا في هذا الوقت إلي أن تكون أفعالنا معبرة عن فكرنا‏,‏ وذلك بعد أن كثر بيننا أناس يقولون ما لا يفعلون‏,‏ كهؤلاء لذين يهاجمون الحضارة الغربية وإنجازاتها‏,‏ ويكونون في نفس الوقت أكثر الناس استفادة من روائعها‏.‏

وكتابات الأب متي المسكين الرائعة والتي كنت ومازلت حريصا علي قراءتها ومنذ سنوات بعيدة بعد زياراتي المتعددة لدير الأنبا مقار‏,‏ إذ كانت تكشف كما قلت عن موسوعة علمية وفكرية‏,‏ فإنها تعد معبرة عن كراهية من جانبه للفتنة الطائفية‏.‏ فالرجل طول حياته يكتب آلاف الصفحات المعبرة عن جوهر الأديان بصفة عامة‏,‏ والدين المسيحي بصفة خاصة‏.‏ الصفحات التي تعبر عن حقيقة نفسه المضيئة‏,‏ النفس التي تسعي إلي تحويل الفكر إلي سلوك وواقع‏.‏
استمع إليه أيها القارئ العزيز وهو يقول في مقدمة كتابه الكبير‏:‏ حياة الصلاة الأرثوذكسية مخاطبا المسيحيين‏:‏ إن العالم اليوم متعطش لشهادة إيمان حي بشخص يسوع المسيح‏,‏ لا ليسمعها ولكن ليعيشها‏.‏ فالكتب التي تتكلم عن المسيح ما أكثرها‏,‏ والمعلمون الذين يتكلمون عن المسيح ما أكثرهم أيضا‏,‏ ولكن الذين يعيشون مع المسيح ويتكلمون مع المسيح قليلون جدا‏.‏ والكنيسة لا يمكن أن تعيش علي حقائق إيمان تدرس‏,‏ فالإيمان بالمسيح ليس نظرية بل قوة قادرة علي تغيير الحياة‏,‏ وكل إنسان في المسيح يسوع لابد أن تكون له هذه القوة‏,‏ أي يكون قادرا علي تغيير حياته وتجديدها بقوة المسيح‏(‏ ص‏10‏ من كتابه‏).‏

هذه كلمات من إنسان يدافع عن دينه ولا يتردد في نقد سلوك أبناء دينه والذين يفصلون بين العقيدة والعمل‏.‏ إنه لا يتردد طوال صفحات كتابه عن حياة الصلاة الأرثوذكسية والذي تقترب صفحاته من سبعمائة صفحة‏,‏ وأيضا في كتبه الأخري وما أكثرها‏,‏ لا يتردد في التأكيد علي أن العبادات تكون حقيقتها في الباطن وليس في الظاهر أساسا‏.‏ يؤكد علي القول بأن هدف الفرد الإنساني يجب أن يدور حول الغيرية وحب الآخرين وبحيث يكون مبتعدا تماما عن الأنانية والسلوك الذي يضر بالآخرين‏.‏ إنه يقول‏:‏ لقد أصبحت لهفة العالم اليوم إلي شهادة إيمان حية صادرة من نفس لها صلة حقيقية بالله‏,‏ شديدة للغاية لأنها تفوق في وزنها وأثرها ألف كتاب عن العقيدة والإيمان والصلاة‏.‏
إنه يدعونا إلي التواضع وإنكار الذات‏,‏ وكم نحن الآن وأكثر من أي وقت مضي‏.‏ في أمس الحاجة إلي غرس هذه القيم في نفوسنا بعد أن انتشرت بيننا ظاهرة تضخم الأنا‏,‏ وظاهرة الغرور بدون أدني مبرر‏.‏ يقول الأب متي المسكين‏:‏ حذار أن تكون فكرة عن نفسك أنك شئ مهم‏,‏ وأنه لولاك لتوقفت الأمور وتعطلت الأعمال‏,‏ فتبدو ذاتك في عينيك أنها عظيمة وكبيرة‏.‏ كما يقول في عبارة رائعة‏:‏ من الأفضل للإنسان أن يعيش ميتا في نظر الناس والعالم ويخلص‏,‏ من أن يتبوأ أعظم المراكز والخدمات ويخسر حريته وحياته لأبدية‏,‏ كما أنه أفضل للإنسان أن يقال عنه إنه جاهل أو ضعيف‏,‏ ويكون سائرا في طريق الحق والحياة‏.‏ من أن يكون شغله الشاغل مديح الأفواه علي المنابر كقوي عظيم وتكون حياته الداخلية خربة وخالية والظلمة تلاحقه‏.‏

والواقع أن الأب متي المسكين قد بذل جهدا‏,‏ وجهدا كبيرا في التنبيه إلي أهمية القيم الروحية في بلورة سلوك الإنسان‏,‏ فالإنسان لا يكون كائنا اجتماعيا إلا إذا كانت المحبة هي عقيدته الكبري ـ كما يقول‏.‏ وهو يثق بالله ثقة مطلقة‏.‏ إن هذا يعد واضحا غاية الوضوح في كل الكتب التي قام بتأليفها‏,‏ ومنها علي سبيل المثال ما يكتبه في الفصل السادس من كتابه حياة الصلاة عن ضبط الفكر‏,‏ وهو يعد أروع فصول كتابه‏.‏ إنه يقول‏:‏ من نعم الله علي الإنسان سعة الخيال وامتداده حتي إلي ما فوق حدود العالم المادي‏,‏ فالفكر البشري يستطيع أن يحيط بكل ما علي الارض ويمتد ليتصور ما في السماء‏.‏ وقد وهبنا الله هذا الخيال الحي لنتصور به حوادث الماضي لنحيا فيها ونشترك في بركاتها ونحتاط لاخطائها‏,‏ فالخيال هو الرباط الذي يربط حقائق الماضي بوقائع الحاضر بأماني المستقبل‏.‏
إن الأب متي المسكين كان ولا يزال حريصا علي أن يقدم لنا مجتمعا أفضل‏,‏ مجتمعا حضاريا تتمثل حضارته في الداخل أساسا‏,‏ داخل الإنسان‏,‏ وليس من خلال الانبهار بالعوامل الخارجية الزائفة‏,‏ أي بقشور الحضارة‏.‏ فإذا صلح الإنسان بداخله‏,‏ فإن الأمة سوف تأخذ طريقها نحو التقدم إلي الأمام والازدهار حاضرا ومستقبلا‏.‏ فالإنسان فيما يقول يكون في غاية السعادة والسلام بسبب عناية الله به عناية شاملة من جهة رغباته الجسدية ورعايته في الداخل والخارج وحمايته له حماية ملموسة في كل المواقف‏,‏ وليطمئن الإنسان تماما أنه محفوظ بيد الله وملحوظ بعنايته‏,‏ وتزداد ثقة الإنسان ويتقوي إيمانه بالله علي أساس الدليل المادي الواضح والبرهان الملموس‏.‏

والواقع أن القارئ لآلاف الصفحات التي كتبها الأب متي المسكين‏,‏ يجد نفسه في دهشة أمام هذه الثقافة الموسوعية والتي يعبر عنها حديثه عن مئات الموضوعات التي يكتب فيها‏.‏ إن القارئ يشعر بالإعجاب تجاه الرجل خاصة أنه يكتب بروح أدبية وأسلوب مشرق غاية في الوضوح‏,‏ أسلوب يعبر من خلاله عن قلقه تجاه ما يعترض الإنسان في كل زمان وكل مكان من قلق ومعوقات‏.‏ إنه لا يكون مكتفيا بالحديث عن مشكلات الإنسان‏,‏ بل سرعان ما يقدم لنا الحلول وأوجه العلاج‏.‏ إنه يكتب عن الأمل وعن التفاؤل وعن التربية الروحية وكيف يكون فيها الخلاص من متاعب الإنسان‏.‏ إن هذا يعد واضحا في حديثه عن الفتور الروحي وعوامل تقوية إرادة الروح‏.‏ يتحدث عن الضمير وأهميته في حياتنا‏.‏
وإذا كنا من جانبنا قد نختلف مع الأب متي المسكين حول رأي أو أكثر من الآراء‏,‏ التي قال بها‏,‏ إلا أننا نقول إن الرجل قد دخل تاريخ ثقافتنا المعاصرة من أوسع الأبواب وأرحبها‏,‏ ولا يمكن أن نتصور تاريخا لتلك الثقافة‏,‏ إلا إذا وضعنا في اعتبارنا مجهودات المفكر والعالم والذي يعمل في صمت وبدون كلل أو ملل‏.‏ لقد استحق التحية من الجميع‏,‏ استحق الثناء والإعجاب والتقدير من كل فرد من أفراد الإنسانية في كل زمان وكل مكان‏.‏

نقول ونكرر بأن الحديث عن الرؤية القبطية في الثقافة المصرية والعربية‏,‏ يعد موضوعا بالغ الأهمية خاصة في عصرنا الحالي‏,‏ العصر الذي امتزجت فيه ثورة العقل بهدوء النفس والروح‏,‏ العصر الذي يدعونا إلي النظر الي الثقافة من منظور الإنسانية العالمية‏,‏ وليس من منظور التفرقة بين أصحاب دين‏,‏ وأصحاب دين آخر‏.‏ لقد أصبح الكل في واحد‏,‏ وبحيث يسعي الجميع إلي إرساء دعائم الفكر الحر المستنير‏,‏ الفكر الإنساني والذي يتخطي حدود الزمان وحدود المكان أيضا‏,‏ بحثا عن الخالد والأزلي‏,‏ وبحيث يقول كل واحد في كل دين‏:‏ هذه آثارنا تدل علينا‏,‏ فانظروا بعدنا إلي الآثار والعبرة ليست في الخلاف‏,‏ بل في المحبة والوئام والاتفاق‏,‏ لأن الفكر نسيج يشارك في خيوطه أصحاب كل دين من الأديان‏.‏
الرد مع إقتباس