تكملة الموضوع
أما اليهودية كشريعة العهد القديم تتعارض بالتأكيد مع العلمانية ، فقوانينهم كلها ذات مصدر إلهي ، قد تمتلئ بالرحمة أحيانا أو بالقسوة أحيانا ، و لكنها لا تسمح لظروف خاصة أن يدخل دين آخر إلى دولة شعب الله المختار ، ويحيون تحت مجتمع مدني مشترك ، وهي في هذا لا تختلف عن الإسلام مع الفارق الجوهري ، أن اليهودية لا تدعي العالمية ، ولا تريد للشريعة اليهودية أن تطبق على من هم خارج الشريعة ، فهم لا يريدون لشريعتهم أن يطبقها العالم (كالفكر الإسلامي) ، ولذلك فمن الممكن لليهود أن يحيوا في كنف المجتمع العلماني الغير يهودي بلا مشاكل ، فهم يستطيعون تطبيق معظم شريعتهم في جيتوهات مغلقة ، أما التعامل مع الآخر فيخضع للقانون المدني.
وإن كان اليهود المعاصرون قد نجحوا في التأقلم مع العصر الحديث ، وفصلوا الدين عن الدولة في حدود ما يسمح ببقاء الهوية اليهودية بالطبع ، لتصبح دولتهم في الشرق الأوسط أقرب ما يكون للعلمانية وسط طوفان من الصبغة الإسلامية القهرية...
أما المسيحية ... وهنا المفارقة... فهي كلاهوت وأيدولوجية ليست ككل ما سبق ، فهي لا تعترض على العلمانية ، ولا تقف منها موقف الحياد كالبوذية ، بل أنها تشجع على العلمانية ..
قد يبدو هذا غريبا ، ولكنها الحقيقة ... فليست صدفة أن تكون دول أوروبا وأمريكا ذات الجذور الثقافية المسيحية هي منبع العلمانية ، وليست الهند أو الصين أو غيرها من الثقافات الأكثر عراقة والغير معارضة للعلمانية في جوهرها ... فليس يكفي على ما يبدو أن تكون غير معترضا بل ينبغي أن تكون مؤيدا للحرية لكي تفكر في ابتكار مفهوم كالعلمانية.
المسيحية تريد تغيير العالم (ليست محلية كاليهودية) دون قهر (كالإسلام)، أو هروب (كالبوذية) ... ولكن في بعض الأحيان تسقط السلطات الكنسية في خطيئة عشق السلطة ومعها تتوه معالم تعاليم المسيح الأصلية (3)
فنصوص المسيحية المقدسة من أقوال المسيح هي التي خلقت مفهوما جديدا للتشريع الديني فأصبح الإنسان هو المركز لا الشريعة (4) ، وكان هذا تمهيدا للفصل بين القيصر والإله (5) .. ولكن كان على هذا المفهوم أن يصير متاحا لعامة الناس (شعبيا) على يد ثورة الإصلاح Reformation ، ضد سلطة الكنيسة الكاثوليكية لكي يؤتي بثماره السياسية والاجتماعية ، ومن هنا كانت المفارقة بين المسيح والسلطات الكنسية... فالمسيح فصل اللاهوتي عن المدني ، و مملكة الله عن مملكة العالم منذ أكثر من 2000 عام ، و لم تصل الفكرة إلى التطبيق الفعلي إلا في القرن ال19 ، وفي مجتمع ذوي أصول مسيحية مثل بريطانيا ، تمردا على سلطات الكنيسة المبالغ فيها . فالمسيح كان يعلم جيدا أنه لا إيمان حقيقي بدون حرية اختيار وحرية ضمير وتحرر من الشريعة الدينية ...!
نستطيع أن نقول أن تعالم المسيح تريد حكما محايدا وتعلم ان الفوز في المبارة حليف الأكثر كفاءة ، المسيح لم يصك مصطلح العلمانية بالتأكيد ، ولكنه كان الأعظم في تحرير البشر ... وعلى هذه الحرية و الرغبة فيها قامت كلا من الديمقراطية والعلمانية ونبعت من جذور الثقافة الغربية لا غيرها...
هل العلمانية هي الحل ؟
لا يمكن أن نمر دون أن نتساءل عن مشاكل العلمانية ، فهي ليست دينا معصوما أو وحيا ، بل هي حركة إنسانية ، تحمل الحرية الإنسانية إلى أبعاد أكثر رونقا ، فالحرية الإنسانية -كما قلت من قبل -تسبقها في المعنى والأهمية ، فالعلمانية لم يستمر على وجودها إلا أقل من 200 عام ، ومازالت تواجه الكثير من المشاكل والأخطاء التطبيقية ، و الانحرافات الفكرية ، شأنها شأن الحالة الإنسانية نفسها ... تسقط وتقوم لتعاود السقوط ثم القيام ، وفي قيامها وسقوطها يتعلم الإنسان المزيد ويستفيد من أخطائه ...
* أولا: لعل أكبر الأمثلة على مشاكل العلمانية أنها تتعامل بحيادية (أو أنها من المفترض أن تتعامل بحيادية) مع الجميع ، حتى مع من يرفضونها ، وبهذه الحيادية المطلقة قد تسمح بوصول متطرفين أو متعصبين سواء من المتدينين أو الملحدين إلى الحكم ، ومنه ينقلبون على العلمانية نفسها فيقمعون هذه الحرية ، وهذه البيئة الحيادية ... وبهذا قد تحمل العلمانية بذور فناءها في المجتمعات الأكثر جهلا وتعصبا مثل مجتمعات الشرق الأوسط ...
* ثانيا: ومن الأمثلة الأخرى علي المشاكل التي مازالت تنتظر حلولا هي طريقة تطبيق العلمانية ، فالعلمانية كبيئة حيادية يكمن تطبيقها بإحدى طريقتين :
1) الحيادية الإيجابية ... و التي تسمح للجميع بالتعبير الكامل عن معتقداتهم مثل علمانية أمريكا ... التي تسمح لليهودي و البوذي و المسيحي و المسلم والملحد كل بالتعبير عن معتقده في الحياة العامة و المؤسسات العامة ... فتسمح بجميع أنواع التعبير ، حتى مهاجمة العقائد و الأديان أو الدعوة إلى الأديان أو ارتداء الأزياء الدينية الخاصة بأتباع كل دين .. طالما كانت طريقة التعبير تخضع للقانون المدني و لا تمثل خطرا ماديا ملموسا على حياة الناس .
2) وهناك الحيادية السلبية: و هي التي تقف على النقيض ضد جميع مظاهر التعبير الديني في الحياة العامة ، فتمنع ارتداء الملابس الدينية مثلا في المؤسسات الحكومية و المدنية العامة ، وهذه تمثلها علمانية فرنسا
و السؤال ... أيهما نختار؟
|