كما يقول الأعراب في شرق أمتهم المقطعة الأوصال وغربها : من جرب المجرب عقله مخرب ، ولأنني على يقين بأن ذاكرة الأعراب في عصرنا الراهن لا زالت تختزن وعلى الرغم من العسف والقمع والإقصاء المهولين الذي تعرضت له ممن استبد بهم وحولهم إلى قطعان من البشر بدل أن يكونوا مجتمعات طبيعية كما هو حال أقرانهم في أصقاع الأرض الأخرى، لا زالت تختزن في حناياها مورثات ذاكرة العربي البدوي الثاقبة التي كان يعرف بها وهاد الصحراء وكثبانها وحتى عواصفها.
وإننا عندما نعتصر ذاكرتنا القريبة جداً سوف نستطيع استحضار عاصفة الصحراء كما يسميها فريق المحافظين الجدد في الولايات المتحدة أو كما يراها العقل الجمعي العربي بعاصفة الموت التي قتّلت شعب العراق الأبي بشكل منظم و بعدة أشكال أخطرها هو قتل مستقبل أبنائه الذين يناط بهم استنهاض العراق الأبي في المستقبل جراء ما تم إلقاءه من اليورانيوم المنضب Depleted Uranium والذي قدره خبراء مستقلون بـ 800 طن من المواد المشعة المنضبة والتي تعادل من الناحية الوزنية 12500 كمية اليورانيوم المستخدمة في صناعة القنبلة النووية التي ألقتها الولايات المتحدة في أغسطس 1945 على مدينة هيروشيما اليابانية والمقدرة بـ 64 كيلو غرام من اليورانيوم وتعادل فعلياً 480 طن من اليورانيوم الطبيعي باعتبار أن القدرة الإشعاعية لليورانيوم المنضب هو 60% من اليورانيوم الطبيعي والذي يعادل أيضاً من هذه الزاوية 7500 قنبلة ذرية من فئة الولد الصغير ( Little boy ) التي ألقتها الولايات المتحدة على هيروشيما من الناحية الإشعاعية أيضاً. وذلك اليورانيوم المنضب كان قد تم توزيعه على كافة أنحاء الأرض العربية المجهضة المستقبل في العراق والكويت والتي لا زلنا نرى بأم أعيننا كأطباء حالات الأورام والطفرات المورثية التي لم تحدث سابقاً على وجه البسيطة حتى في هيروشيما نفسها ، بسبب عدالة أبناء العم سام في توزيع الموت على أبناء العرب.
ولأننا على معرفة حقة وعميقة بآلية عمل المنظومة الرأسمالية المتوحشة في العالم الغربي وخاصة الولايات المتحدة ومن يلف لفها من دول الاتحاد الأوربي وغيرهم فهم لا يعبثون ولا يكترثون سوى لمصالحهم حيث أن حقوق الإنسان من الناحية السياسية في ذلك الجزء من العالم محدودة في حدوده فقط حسب قوالب اللعبة السياسية الانتهازية الرأسمالية وإن حاول بعض السياسيين تزويقها ومنحها لوناً آخر ينسجم مع لون بشرتهم غير الأبيض والذي لا يغير من جوهر وظيفتهم في عجلة الفعل الرأسمالي المعاصر والذي تحاول فعلاً مواجهته منظمات المجتمع المدني في العالم الغربي و ترويض توحشه ولكنها لا زالت غير مفلحة في ذلك خارج حدود بلدانها نظراً لقواعد اللعب الرأسمالي المتفق على تسيدها في تلك المجتمعات.
ويستدعي انتباه العقل العربي البسيط في هذه المجزرة المستجدة يومياً والتي تحدث في ليبيا الأبية سؤال بسيط عن السبب الذي يدعو بعض العقلاء والطيبين إلى المطالبة بفرض حظر جوي على الطاغية القذافي ومرتزقته من قبل المجتمع الدولي إلى أن يصل ذلك بالبعض إلى مناشدة الولايات المتحدة إلى القيام بذلك لأن صبرنا النضالي قد عيل ولم نعد نطيق الصمود في معركة تحررية حقيقية يخوضها الشعب العربي الليبي الأبي ويصيغ بها تاريخاً جديداً له وللأمة العربية الحية التي طالما كنا نتوجع على موتها السريري المشهر في جميع أركان المعمورة.
ولأن الحقيقة مطلق لا يمتلكه أي كان فإن التساؤل الطبيعي هنا يبرز عن دور تلك الجيوش العربية الجرارة التي يبلغ عددها بالملايين ابتداء من 450000 جندي مصري مروراً بـ 150000 جندي سعودي ووصولاً إلى 30000 جندي سوري و هذه الدول العربية نفسها هي التي تنفق أكثر من 47 بليون دولار سنوياً على شراء عتاد عسكري تكدسه في المخازن لتشغل به معامل الأسلحة في الولايات المتحدة وشركائها فقط و لتقوم بشراء غيره بعد أن تنتهي صلاحيته و هو في المخازن التي لا ترى النور.
ولا نظن بأن هذا التساؤل يشذ عن المنطقية فهذه الدول العربية بالتحديد كانت قد دخلت بالفعل سابقاً بالاستناد إلى اتفاقية الدفاع العربي المشترك في العام 1990 وقامت بالحرب على وحدات الجيش العراقي بشكل واقعي لتحرير الكويت كما زعموا وليس لأن حكام تلك الدول كانوا يأتمرون بأمر أسيادهم الأمريكان ! ولأن بعضنا يعتقد جازماً بأن المواطن العربي الليبي سوف يهلل لأخوته من جنود الجيوش العربية التي إن حطت في أرض ليبيا الطيبة ولكنه لن يجد بداً عاجلاً أو آجلاً مقارعة جيوش الاحتلال الأمريكي إن حطت في أرضه لأنه لم يعد يطيق الذل والهوان الذي ذاقه من الطاغية المخبول و هو لن يستطيع أن يطيق الاستغلال والسرقة و ذر الفرقة والتخلف الذي سوف يفعله أسياد وصناع ذلك الطاغية حتماً إن حطوا في أرض ليبيا ليحكموا ليبيا مباشرة وليس بالوكالة كما فعلوا في العقود الأربعة المنصرمة .
ولأننا على معرفة حقة بأن الكثير سوف يقول بأن هذا المطلب غير قابل للتحقيق في ضوء انشغال الحكام العرب راهناً في تثبيت الكراسي من تحتهم لمن لم تصبه الزلزلة لحد الآن ، أو في محاولة الالتفاف عليها لمن وقع في لجها ويجاهد ليخرج منها بأقل الخسائر راهناً ليجهضها متى ما تأتى له أو لمن سوف يبقى من زبانيته بعده ذلك ، فقد يكون من الصواب المنطقي دعوة كل جماهير الأمة العربية من محيطها إلى خليجها أن تستنهض لسانها الذي ابتلعته لعقود طويلة وتخرج إلى الشوارع والحواري و الأزقة و (الزنقات) العربية في مطالبة أساسية صارخة جوهرها تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك وتجييش الجيوش العربية بكل عتادها المكدس وغير المستعمل والذهاب إلى ليبيا لفرض الحظر الجوي وحماية المدنيين العزل ليستطيع الثوار أبناء ليبيا المجاهدة القيام بما رأوه حقاً لشعبهم وشهدائهم بقدراتهم النضالية الطبيعية التي ورثوها من معلم الشهداء العرب الشيخ عمر المختار .
نعم إن الطغمة الرأسمالية المتوحشة في العالم الغربي بكل أدواتها وهياكلها التنفيذية ابتداءً من الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي وصولاً إلى الدمى السياسية التي تقوم بدور الحاكم الشكلي لتلك الآلة الوحشية للرأسمالية، لا ترى في أي جزء من الوطن العربي الكبير إلا بئراً من النفط أو صحراء يعيش فيها تجمعات من البشر المتخلفين الذين لا يستحقون حتى أن ينعموا بالحياة الحضرية العادية لأنهم من راكبي الجمال Camel Riders الذين وضعهم الطبيعي أن يكونوا خدماً لسادتهم البيض ، ولذلك فإن ضمير هذه الأمة العربية الناهض من قمقمه حري به أن يكون منتفضاً و صارخاً في كل الشوارع والأزقة والساحات ليجعل كل منها ساحة للتحرير وهو ينادي بصوت واحد يهز صداه الأرض العربية من المحيط إلى الخليج لنصرة ليبيا الجريحة لأننا شعب عرف كيف يصرخ مطالباً بكرامته المهدورة و قوته المسروق بعد طول صمت وعرف بأنه يستحق الحياة وأن أرضه وكرامته وثرواته وصوته ملك له لا يحق لأحد أن يستبيحها أو يجيرها لنفسه كما علمنا المخلص البطل الشهيد البوعزيزي.
مصعب عزّاوي
طبيب عربي مقيم في لندن