فلنتابع الجزء الثالث من المقال .......
إقتباس:
عندما قرأت هذه الكلمات كـ مسلم لأول مرة وجدت ما شد بصري وسلب قلبي وعقلي نحو هذا الرقي وتلك العبقرية لدى المسيح؛ وكم تختلف نظرته تماما عن أي شيء تعودت عليه. الله في المسيحية لا يرثي لحال الخطاة أو ينظر إليهم بتعالٍ دوغمائي أو يتوعدهم بنيران لا تبقي ولا تذر بل يشفق في حنان أبوي عليهم ويعرف أن ضعفهم ليس بشيء غريب يصيبه بالمفاجأة بينما في الإسلام الله دائما يتوعد حتى وإن حث الناس على فضيلة الشكر فيقول القرآن: وإنْ شكرتم لأزيدنكم وإنْ كفرتم إن عذابي لشديد. لا يتمالك واضع القرآن إلا أن يختم كل شيء بنغمة سلبية كلها تهديد ووعيد وترهيب الناس من العذاب. وبما أن الناس مطبوعون على صور آلهتهم تجد أمة الشرق هي أكثر أمة بين الأمم تميل إلى النغمة السلبية وتطغى عليها الروح السوداوية ولا تخلو من أساليب التهديد والوعيد. ماذا يحدث لو أن صاحب القرآن كان قد قال: "ولئن شكرتم لأزيدنكم" ثم توقف هنا متوسماً في ضمائرنا أن تتجاوب مع ما هو إيجابي وتشجيعي؟ في مقولة المسيح الراقية "أحبوا أعدائكم" نجد ارتقاء المستوى الإلهي في تعاليمه؛ وعليه يكون المسيح أقرب للإله في تعاليمه وشخصه منه للإنسان. المسيح كان دائماً إيجابياً حتى تجاه من لم يقبلوا أن يتبعوه لسبب أو لآخر. لم يهددهم أو يتوعدهم ومعظم وعيده وغضبه كان ينصب على أهل النفاق الديني من أحبار اليهود وحاخاماتهم ممن حملوا الناس أحمالاً صعبةً ولم يحركوا واحداً منها بإصبعهم. يرفض المسيح الروح السلبية ويرفض كذلك لهجة التهديد والوعيد تجاه من لم يتبعه بل يقول له عبارة ترن بأذني كلما شئت التكلم عن المسيح وبإسم المسيح والعبارة هي "لست بعيداً عن ملكوت الله" مع أنه كان قادر أن يقول الويل والنار وبئس المصير لك إنْ لم يتبعني. جاءت هذه العبارة في إنجيل مرقس الفصل 12:
"وتَقدَّمَ أَحدُ الكَتَبةِ -وكانَ قد سَمِعَهم يَتباحثونَ، ورَأَى أَنَّ يَسوعَ قد أَحسنَ في الجَوابِ لَهم- فَسَأَلَهُ: "أَيُّ وَصيَّةٍ هي أُولى الوَصايا جميعًا؟" 29 فأَجابَ يَسوع: "أَلأُولى هيَ: اسمَعْ يا إِسْرائيل؛ أَلرَّبُّ إِلهُنا، هُوَ الرَّبُّ الوَحيد: 30 فأَحْبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكلِّ قلبِكَ، وكلِّ نَفْسِكَ، وكلِّ ذِهْنِكَ، وكلِّ قُوِّتِك. 31 والثَّانيةُ هيَ هذِه: أَحبِبْ قريبَكَ كَنفسِك. وليسَ مِن وَصيَّةٍ أُخرى أَعظَمَ مِن هاتَيْن". 32 فقالَ لهُ الكاتِب: "حَسَنٌ يا مُعلِّم! لَقد أَصَبْتَ إِذ قُلْتَ: إِنَّهُ الوحيدُ، ولا آخَرَ سِواه؛ 33 وإِنَّ مَحبَّتَهُ بكلِّ القَلبِ، وكلِّ العَقلِ، وكلِّ القُوَّةِ، ومَحبَّةَ القَريبِ كالنَّفسِ لأَفضلُ من جميعِ المُحرَقاتِ والذَّبائح". 34 فلمَّا رأَى يَسوعُ أَنَّهُ قد أَجابَ بحِكْمةٍ، قالَ لهُ: "لَستَ بِبَعيدٍ عن مَلكوتِ الله". ولم يجسُرْ أَحدٌ من بَعدُ، أَنْ يُلقِيَ علَيهِ سُؤالاً."
الميل الطبيعي لدى الإنسان هو أن يجلد الآخرين إن لم يسبقهم بجلد نفسه جلداً ذاتياً دون شفقة. لكن المسيح يترفع عن هذا الميل البشري الطبيعي ونرى ألوهته في عبارته الشهيرة الدالة على رقيه وبعيداً عن لهجة التهديد والوعيد "لَستَ بِبَعيدٍ عن مَلكوتِ الله". المسيحي الراقي سيقول هذه العبارة وهو يثق أن الله أكبر من قلوبنا ومحبته غير مشروطة ويظل دائما يطرق باب قلبنا وهي مبادرة الحب الإلهي الصادرة من إله يحبنا أولاً وهو البادئ بالحب والتجاوب متوقف علينا ولكنه لا يقتحم حياتنا عنوةً أو كراهية أو "طوعاً أو كرهاً".
أيضا أذكر وأنا طفل مسلم استيائي عند سماع كلمة "النكاح" ورأيتها كلمة بذيئة وشوارعية وإلا كيف يشعر أبٌ ما عندما يتقدم رجل لخطبة إبنته ويقول له "أريد أن أنكح بنتك؟" تتوقعون ماذا يكون رده على عريس الغفلة هذا؟ هل يقول له: وماله.. تعالى انكح وبكل سرور؟ المعنى واضح ولا يحتاج لمعاجم ومن الجيد أن نسير مع الانطباع الأول الذي يتبادر للذهن، ولا نحاول إيهام أنفسنا وإقناعها عنوة بما قد تعافه النفس ويمجه الذوق الإنساني في حالته العفوية العادية. في الواقع لا يوجد زواج في الإسلام وإنما هناك نكاح. في كتب الفقه الإسلامي لا يستخدم أهل الفقه كلمة (زواج) وإنما يستخدمون مكانها كلمة (نكاح) فهي الكلمة المتداولة في كتب الفقه وعليها مدار البحث بين الفقهاء. والقرآن دائما يحض أتباعه من الذكور أن "فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ". ويعرفه الأحناف بقولهم: النكاح عبارة عن ضم وجمع مخصوص وهو الوطء لأن الزوجين حالة الوطء يجتمعان وينضم كل واحد إلى صاحبه (الاختيار شرح المختار جـ 2). تعريف الزواج بأنه نكاح والنكاح أنه وطء هو تعريف مهين بصدد الحديث عن ناكح ومنكوحة وأيضاً الحديث في الوطء هو عن شيء يطأه الإنسان بالأقدام ويدوس برجليه عليه وفي هذا إهدار للكرامة الإنسانية وتقليل من قيمة المرأة الموطوءة في النكاح أو الوطء. لدى جميع شعوب العالم والتي تضع للإنسان قدر من الكرامة، الجنس هو التقاء نفسي وقلبي واتحاد نابع من فيض هذه العلاقة الحميمية في الصميم ولا يكون الجنس أبداً نوعاً من أنواع الوطء. يكفينا أن نتصفح تراث الجنس العالمي عند الأسيويين في كتاب الكاما سوترا ونرى كيف أن الجنس لديهم دخل في أدبيات المقدس فيها الكلام بصدد اتحاد وانسكاب واحد داخل الآخر وكأني بتروس تتعاشق وليس بقدم تطأ كما قال صاحب الرسالة المحمدية. كيف يتباهى رجل بأنه "يطأ" إمرأة والكلام عند أقوام آخرين هو عن قدرته في إشباعها وتحقيق أمانيها الجنسية؟ ألم يكن أجدر بالجنس أن يكون إمتاعاً متبادلاً بين الرجل والمرأة؟ لعمري لو أراد الأعرابي أن يطأ وطئاً فبالأحرى به أن يطأ ملاءة السرير ويثقبها بعضوه لا إنسانة لها كيان ووجود مثله وتريد منه أن يبادلها الشعور الجنسي لا أن يطأها كما أراد المشرع المحمدي.
يأخذ الرقي المسيحي جانباً آخراً كما أراه في نظرة الله للإنسان. في الإسلام يخلق الله الإنسان والهدف من الخلق هو العبادة فنقرأ: "وما خلقت الجن والإنسان إلا ليعبدون". هذا في نظري نوع من أنواع النرجسية الربانية والتي فيها يخلق الله عبد من بين العبيد ويسخره لعبادته. والرقي المسيحي هنا يرفض كل صور من صور العبودية لله لأن الله لا يسرّ أبداً بالعبيد مسلوبي الإرادة بل يريد الأصدقاء كما قال المسيح "لا أعود أسميكم عبيداً بل أحباء" وفي ترجمة إنكليزية "بل أصدقاء" (يوحنا 15: 5)؛ والفرق بين الصديق والعبد شاسع. سألوا أحد أصدقائي المسيحيين: "هل تخشى الله؟" فأجاب: "لا.. أخشى الأصدقاء". الرقي المسيحي يقتضي علاقة بعيدة تماما عن الخوف وسبله وإنما فيها يطمئن المؤمن إلى حب الله واثقاً أن الله ليس إلا حباً ولا يريد أبداً أن يخسف بالإنسان أو يرعبه أو يكرهه على الطاعة. العبد يعمل بالأجرة (أُجريّ، كما نقول بمصر) أي أنه يكدح ويتعب وينتظر الأجرة في النهاية، أما الإبن فليس كذلك لأنه يوقن أن كل ما للآب له وما له للآب في علاقة متبادلة جميلة وصفها بولس بالعبارة التالية: "إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومية 8: 32). الله، الذي أخذ طبيعتنا البشرية في تجسد المسيح وأعطانا طبيعته، فصرنا شركاء الطبيعة الإلهية كما يقول القديس بطرس. لقد أعطانا كل شيء له بدون شك ولم يسمح لنا مجالاً لأن نرى أنفسنا عبيدا يعملون عنده بالسخرة أو بالأجرة. وعندما أرد الابن الضال في المثل الذي ضربه المسيح (لوقا 15) عن حنان الله وأبوته الفائقة أن يستقل بذاته وطالب بميراثه وأبيه لا يزال على قيد الحياة"، لم يعترضه الأب أو يقلل من حريته أو يقف في طريقه ويعترضه أثناء خروجه من باب الدار ولكنه يحترم طلبه ويدعه يفعل ما تمليه عليه إرادته وهو يعلم كل العلم ما سيفعله الإبن بالميراث من تبديد وما سيفعله بذاته من إسراف فاجع ولكنه كان أيضا يثق أن الحب الأبوي لديه، وهو حب الله الآب المقصود هنا، من شأنه أن يحركه فيدرك أن ما عدا هذا الحب هو ناقص ولا راحة إلا بالعودة لراحة الآب السماوي؛ وفي راحته نستريح حقاً.
|
يتبع .....